" أمريكا هي الطاعون، والطاعونُ أمريكا.. نعسنا، أيقظتنا الطائرات، والموت أمريكا"
كدت أكتفِ بهذه الأبيات التي أدان بها محمود درويش، المحاصر في بيروت، نظام الاستغلال والحرب والفصل العنصري، وكدت أضحك لجواب كاسترو حين سُئل عن مرشحه المفضل لحكم البيت الأبيض، فلم يستطع المفاضلة بين فردتّي حذائه. لكن قلق أطياف اليسار، مما أسفرت عنه الانتخابات الأمريكية، نبّهني من الاستغراق في هذا التبسيط المخّل.
فقد أثبتت النتائج مرة أخرى، أن لا علاقة بين الرأسمالية والديمقراطية، حين مكّنت أحمقاً، أدين بجرائم فساد مالي وأخلاقي، شعبوي يكره أثنين من أفضل إبداعات البشرية، النقابات والحريات، ويعشق الكذب والبذاءة، من حكم أقوى الدول، بالتحالف مع أثرياء، أكثر عشقاً منه للاستبداد والعنف، ممن لا يميزهم عن بني آدم، سوى ما يكتنزوه من أموال وما يسخّروه من إعلام وما جبلوا عليه من قدرة على ارتكاب الجرائم وسرقة قوت البشرية وتخريب البيئة والتلاعب بالقانون والتمييز بين الجنسين وإمتهان كرامة المختلفين معهم، فكراً وثقافة ولوناً، وهي سمات جعلت من القلق على الحريات السياسية والقضاء والاقتصاد وحرية التعبير والانتخابات والصحافة، أمراً مشروعاً.
ويشتد القلق إذا ما علمنا بأن مجموعة ترامب، العصاة الأكثر يمينية بيد الرأسماليين، والتي أغدقت عليها مراكز النفوذ المالي (ايلون ماسك، مايكل موريتز، مارك اندريسن، ريد هوفمان، لورين جوبز واخرين من لاعبي وادي السيلكون) تبرعات هائلة، وقدمت لها وسائل إعلامهم دعماً لا حدود له، ستكون ملّزمة بتنفيذ أجندة المحافظين الجدد، ذات الملامح الفاشية، فيما يتعلق بتصفية دور النقابات وتقليص مكتسبات الشغيلة من رعاية صحية وضمان اجتماعي وخدمات عامة وإلغاء إجراءات حماية المناخ والبيئة.
وفي الوقت الذي لم يكتف فيه هؤلاء، بالسيطرة على الاقتصاد العالمي، بل راحوا يخوضون غمار السياسة المباشرة ويسعون للنزول إلى الشوارع بحركة تماثل النازية في الآليات (مجموعة ماغا مثالاً)، لا ترى قوى اليسار في القلق والإدانة أمرين كافيين، بل تدعو للوحدة ولتصعيد المواجهة وإدراك الظروف التي منحت هؤلاء كل هذه القوة، وأبرزها وصول النظام الرأسمالي إلى درجة من الفوضى سمحت للأوليغارشية الجديدة السيطرة على الشركات العملاقة وشراء النفوذ السياسي والمحامين والأنظمة والقضاة والأصوات لإدامتها. لقد ربحت شركات ترامب ملياراً و شركات ماسك 27 مليار دولار في يوم إعلان النتائج، وجرت الإشادة بالنظام الذي لا يجد علاقة بين عدم المساواة وبين العدالة، بل لا يرى عيباً في إستغلال البشر، معتبراً ثروة المليارديرات رمزاً للحرية.
كما يحذر اليسار، في معرض دعوته هذه، من قراءة خاطئة للواقع، تفسر فوز ترامب بالتحول الشامل لليمين وبتخلٍ شعبي عن اليسار، فالنجاحات التي تحققت ضد اليمين المتطرف، مازالت تتراكم وتُحدث تغييرات نوعية متواصلة رغم محدوديتها في الحجم والمضمون، مما يستدعي عدم الوقوع في فخ اليأس الذي ينصبه اليمين وما يحاول خلقه من تناقضات في صفوف الشغيلة على أساس اللون والجنس والثقافة، والإسراع بإعادة تجميع القوى المناهضة للفاشية، ودراسة ماجرى بروح نقدية جريئة ووضع استراتيجيات وتكتيكات واضحة على ضوء ذلك، لضمان النجاح في الصراع الطبقي المحتدم، والذي لم يعّد يقتصر على النضال الاقتصادي بل بات يشمل الصراع السياسي والأيديولوجي بشكل أكبر.
وإذ تشّكل قوى الخير في أمريكا، الأكثرية، حيث رفض 45 في المائة من الناخبين التصويت لكلا المرشحين وأيّد ملايين الشباب اليسار، فإنها لم ولن تفقد الثقة في الغد، وتستحق تماماّ تضامن الخيّرين والتقدميين واليساريين في العالم معها، لأنها هي وليس ترامب، من يمثل أمريكا.