بعد تبليغ ادارة قصر الثقافة والفنون في البصرة بإخلاء البناية وتهديدهم برمي اثاثهم ومقتنياتهم من الكتب والتراثيات في الشارع ، عدت بذاكرتي عندما كنّا صغارا أيام الستينات والسبعينات من القرن المنصرم ،حيث يطلّ على النهر المقابل لبيتنا الطينيّ من الضفة الأخرى قصرٌ منيف بإيواناته وغرفه وطابقَيه، وبابه الخشبي الكبير ذي الأقواس وشبابيكه الجميلة، وأمامه (المسنّاة) الشريعة بدرجاتها الإسمنتية على النهر، كانت تسكنه عائلة كبيرة من أقاربنا، يسمى قصر الشيوخ، يقال انه كان لأحد أمراء الكويت في بدايات القرن، و يسمى الحوز الذي يقع فيه بحوز القصرــ الحوز هو المنطقة المحصورة بين نهرين ــ كان هذا القصر مَعْلماً جميلاً ننبهر حين ندخله ونتجوّل فيه، بعد توالي السنين تفرّقت العائلة إلى عوائل وتقاسمت القصر لتأخذ كل عائلة حصّتها وتبنيها على هواها، فضاعت ملامح القصر شيئا فشيئا، ثم تهدّم بشكل كامل اثر الحرب العراقية الإيرانية !
استذكرته مثلما استذكرت بيتاً تراثياً جميلاً في مدينة السماوة زرناه خلال مشاركتنا في أيام أوروك الثقافية عام 2019، استطاع صاحبه ابن العائلة المالكة له أن يشتريه من أخوته الورثة ليحافظ عليه كتراث لمدينته، وذاكرة ستبقى لسنوات طويلة تحكي قصة عشقٍ لعائلةٍ سماويةٍ كانت تتقاسم غرفه وإيواناته وسردابه وكِلَلِهِ (جمع كلّة ــ ناموسية) وسلالمه وطوابقه وطريقة تهويته، بعد إعادة ترميمه على وفق طرازه القديم، لقد آثر هذا الرجل المُحِبُّ لبيته ومربع طفولته وصباه أن يتركه عنواناً ومحجّة للناس في قابل الأيام بلا مقابل.
حكاية هذا الرجل وإنفاقه من جيبه الخاص على ترميم بيتٍ عمرُهُ أكثر من مائة سنة هو موقف يُكتب بماء الذهب في الحفاظ على تراثنا وديمومة بقائه للأجيال القادمة.
في البصرة بيوت تراثية كثيرة أصابها الإهمال وتجاوزت عليها الأيدي، لتتهدم أركانها وأبنيتها يوما بعد آخر وتندثر، وتتحول إلى بيوتٍ حديثة ومطاعم ومقاهٍ لم يعد للذاكرة منها أي شيء!
لم يبق من هذه البيوت سوى القليل جداً بعدما استطاع الأدباء والفنانون والمثقفون أن يحافظوا عليها بإشغالها وتحويلها الى أماكن ثقافية يؤمّها محبو الثقافة والتراث والفن، حيث بناية اتحاد الأدباء وقصر الثقافة والفنون وجمعية التشكيليين فقط، أما البقيّة التي كانت تعبق فيها رائحة التراث وحكايات العوائل البصرية القديمة التي مر عليها قرن وأكثر فقد صارت في مهبِّ الريح وتلاشت عنها الصورة التي نراها في بطاقات البريد القديمة والمعايدات وصور البصرة أيام زمان!!
واليوم يتم تبليغ هذه المؤسسات الثقافية بترك البنايات وتسليمها الى الحكومة المحليّة لأسباب نجهلها مع مخاوفنا من هدمها وتحويلها الى مولات ومطاعم ومقاهٍ لأنهم يتبجّحون بالثقافة والتراث ــ أقصد هنا من يسود البلاد والعباد ــ لكنّهم يحاربون كلمة مثقّف وما تعنيه من حساسيّة لهم في كل ما يقومون بها من تصرّفات، أفعالهم تفضح زيف أقوالهم.
لهذا علينا أن نفكّر جديّاً في الحفاظ على هذا الجزء المتبقّي من تلك البيوت لأنها جزءٌ من موروث المدينة وتأريخها، وان نعمل جاهدين على ديمومتها فهي مزارات سياحية بالإمكان الاستفادة منها سياحياً وثقافياً وفنياً واقتصادياً، لا أن تضيع وتصبح مثل ذلك القصر الذي سكن ذاكرتنا فقط !