اخر الاخبار

البارحة ليست الليلة الفائتة من عمر الانسان فقط، وانما هي الماضي بمسراته وآهاته، وبكل الهواجس والمخاوف والعمق والعلو والغموض والغرابة، هي الرجوع نحو الجذور الاولى، واسترجاع لتاريخ انساني يسمو بنا بمواقفه الجميلة، وبالصدق والوضوح واليقين والصفاء والاختلاف. ان الاغنيات العراقية لا تعد ولا تحصى، وانها اشبه بحديقة واسعة تضم العديد من الاشجار، بعضها مسموم او دخيل او مر. وبين هذه الاعداد الغفيرة هناك القليل من الشجيرات الباسقة، تلفت الانتباه اليها، لجمالها وجاذبيتها وما تحمل من الاثمار الطيبة، (اغنية البارحة) واحدة من هذه الاشجار القوية المقاومة للخريف واليباس والظمأ والذبول، ذات العطاء الخاص الذي لا يعرف النضوب.

 أبديَّة هذه القصيدة تبتعد كثيراً عن المحسوسات الدنيوية، وتقترب من العالم الاشراقي المطلق الذي يعنى بالابدية، هي لوعة صوفي لا يمتلك الا الاشتياق الى السماء المطرزة بالنجوم الذهبية المنيرة، ولا يعرف سوى الاستيحاش من عالم الارض المليء بالرياء والنفاق والكذب والشرور والهذيان والتشويش، ويحن الى اصله المتسامي العريق، كموجة متلاشية تحلم بالرجوع الى نهرها القديم.

(البارحة/ هاجت اشواك العمر كلهه البارحة/ البارحة/ حنيت الك بكبر همومي البارحة/ حنيت الك/ حنة غريب ويذكر احبابه بعد غيبة وسفر/ وشايف حنين الصيف لو جاه الشته وبلا مطر/ وردتك تعاشرني بدال نجوم جانت سارحة/ نجمة تسامرني غصب/ نجمة تكلي رايحة).

يمضي قطار الزمن ولا يتوقف في المحطات السعيدة، لكننا عبثاً نحاول الصعود فيه مرة ثانية، فلا بدَّ من العودة الى زمن الطفولة، حيث المسرات العفوية والصداقات واللعب المتواصل في الدروب المقفرة. الماضي عالم غير متجانس من الروائح والاصوات والطقوس والوصايا والسفن والبحار والعصافير الوديعة.

الامس جميل والحاضر دوامة من القلق والشك والريبة والتوجس والانتظار والحماقة والفضول، وحدها الاغاني تطير بنا بكلماتها الساحرة بعيدا الى فضاء من الالوان القزحية المدهشة ، يحلق معها الجميع طربا وانعتاقا وخيالا بلا حدود، وتقهرنا مثل لحظة فراق لا بدَّ منها قرب بحر صاخب الامواج كالحياة، وساكن مثل الموت اللئيم.

 (وصيت الك/ ياما البحر ضيع وصايا السفن والسفانة/ وصيت الك/ ياما الدهر غرك احزان العاشك باحزانه / وصيت الك/ حتى العصافير الزغار الفرحوا دنيانه/ طارت بشوكي وغبشة ياخذهه العشك فرحانه/ رجعتلي مهمومه يعيني وهاكثر حزنانه).

عرض مقالات: