لا يمكن انكار أثر البيئة في بناء شخصية الشاعر وتنمية ثقافة الابداع لديه ، حتى ان البعض ذهب الى القول ان ( الشاعر ابن بيئته) في اشارة الى ان شعره والفاظه يستمدها من البيئة التي يعيش فيها وان ملامح بيئته من عناصر وادوات تظهر في شعره ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما ظهر لنا في الشعر الجاهلي من انعكاس لبيئة الجزيرة الصحراوية وطبيعة الصراعات الدائرة فيها والتي تركت بصمتها على نتاج الكثير من شعرائها حيث جاء شعرهم محتشدا بخطاب الحماسة وصور البطولات التي افرزها القتال بين القبائل اضافة الى خشونة اللفظ ومعان منتزعة من حياة تلك البيئة وهو ما ينسحب ايضا على الشعر العباسي الذي تميز برقة الالفاظ وسهولة التراكيب واهتم بتصوير حالة الترف والرفاهية وحياة القصور وما كان يدور فيها من غناء وغيرها من فعاليات فنية ، الا اننا نقرأ في اشعار " فدعة " التي عاشت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ما يخالف الرأي الذي يأخذ بتدخل المؤثرات البيئية على المنتج الابداعي ، فهذه الشاعرة تربت في بيئة الفرات الأوسط ذات المزارع والخضرة ولطافة الجو وترعرعت وسط قبيلة عربية فصيحة اللسان هي قبيلة خزاعة الا ان شعرها تضمن الفاظ ومفردات صعبة الفهم على العديد من القراء وربما حتى على ابناء قومها ، مع الاقرار ان شعرها جاء في جانب كبير منه منسجما مع الحالة الاجتماعية لتلك البيئة التي تميزت بكثرة النزاعات العشائرية والقبلية وانطوى على تمجيد القوة والفروسية والتفاخر ببطولات واخلاق شقيقها " حسين " الذي قتل غدرا في منازلة مع ابن عمه على زعامة القبيلة وظلت فدعة في معظم اشعارها تنعي فقدانه وتسبغ عليه من صفات الرجولة والشجاعة ما لم تصل الى بلاغاتها الكثير من اشعار النعي ومنها قولها في قوة شخصيته وشدة بأسه بحيث اذا ضرب فليس من علاج لهول ضربته وذلك في قولها :
حسين السحاب او همل جايه موحان ومشيِّل الكَرايه
يا زلزله وبيها المنايه ربّاط واعمامه ثوايه
وهوه طفل عذّب الدّايه يعربيد يا شيخ الحيايه
على كَرصتك ما ترهم آيه
كما انها تصف شجاعته بكلمات لا يمكن المرور بها على عجل بدون التأمل في عمق المفردة والصورة الشعرية المبهرة فهي تصفه :
يليث الجوافل منه تميل
يا صل الربه بروس العرازيل
فهو كالأسد الذي تجفل منه القوافل اذا مر من أمامها ، كما انه شديد عند الغضب وتصفه بالأفعى التي تربت في المرتفعات وتركت الوديان والاراضي الواطئة اشارة الى رفعته سمو مقامه .
والذي استوقفني من بين العديد من الأوصاف التي اسبغتها على شقيقها المغدور هو قولها ( نغل الماش يا الما ينطبخ بالزاد ) وهو بلا شك وصف يندرج في اطار المديح حيث تشير فيه الى رجولته الصعبة المراس والعصية على الترويض وصاحب العزيمة التي لا تلين بالنار والحديد واستعارت لوصف خصاله بـلفظة ( نغل الماش ) وهي الحبة التي تشذ عن الجماعة في شكلها ولونها وتعجز النار عن انضاجها بسبب الخصوصية في تكوينها وهذه الاستعارة شائعة في ثقافتنا الشعبية التي تكيل المديح للرجل الشاطر في تعامله وافلاته من المأزق فتصفه بـ ( النغل ) . هذا هو الشعر الذي يدعوك الى التأمل في عمق المفردة ودلالتها وتطربك انغام كلماته وصوره وقد قالها الشاعر جميل صدقي الزهاوي :اذا الشعر لم يطربك عند سماعه.. فليس خليقا أن يقال له شعر .