اخر الاخبار

سؤال لطالما شغلني، هل الثقافة هي مجموعة الإبداعات الرفيعة والخلاقة في تمظهراتها بالرواية والمسرح والسينما والفنون التشكيلية؟ أم تتعدى ذلك إلى كل ما من شأنه تجسيد الجمال الإنساني من حولنا؟ أقصد ذلك الجمال الكامن في ممارسة ما أو سلوكيات إنسانية ما، طالما تصادفنا في حياتنا اليوميّة من دون أن ننتبه إليها.

شخصياً أعدّ ابتسامة بائعة النعناع البسيطة التي تفترش الأرض أمام سلّتها الكبيرة المملؤة بنضد من حزم النعناع، ثقافة. معشرها الحلو، كرمها العفوي، منطقها، قدرتها الهائلة على ابتكار سعادتها وسط السوق الشعبي، ثقافة. جمالها المخبوء تحت فوطتها السوداء، الوشم الأزرق المتسرب من زيق ثوبها ليكشف بطريقة رحيمة فلقة بيضاء من صدرها، عدم اكتراثها بموبقات رجال البلدية، قدرتها الفذّة على السخرية من بائع الشاي المجاور حين يغازلها بشكل مبطن، ثقافة. الأثواب الملوّنة لزبوناتها اللواتي يضعن سلال التسوق بطريقة مختلفة فوق رؤوسهن، ثقافة. مرة كنت عابرًا في السوق الشعبي في هولندا، فوجدت نفسي منقادًا لرائحة حلوى  "الوافل" تقليدية الشهيرة، فاكتشفت سيّدة تضع مشواة خاصّة تحت مظلة ملوّنة وتخلط مزيج السكّر والطحين واللوز لتصنعها. كانت الرائحة الفذّة تبتكر غوايتها بحذاقة، وتُجبر المارّة على الوقوف وتأمّل طريقتها في صنع تلك الحلوى، وحين سألتها عن سرّ تلك الرائحة، ابتسمت وقالت، أنّه الحب يا صديقي. لكن ما علاقة الحب بحلوى الوافل؟ ضحكت مرّة أخرى وهي تقلّب الأقراص البُنيّة بمهارة، وقالت، أنا أصنع الوافل منذ أكثر من خمسين سنة.. هل تتخيّل الأمر؟ أصنعه بمتعة كبيرة وأغدق عليه من مشاعري الصادقة، هو إذن وافل مُداف بالحب كما ترى، اقترب كي تتذوقه.. خذ قضمة من هذه.. لن تندم صدّقني، لا تشتر مني، ليس بالضرورة، لكن أرغب برؤية تأثير إجادتي للصنعة على ملامحك وحسب، وحين قضمت، شعرتُ كما لو ان نافذّة صغيرة تطل على الجنّة قد فُتحت لي. أليس ما تصنعه تلك السيّدة ثقافة من نوع ما أيضا؟

حسنًت. عندما تقف عائلة من الهنود الحمر لتعزف على آلات خشبية صغيرة تشبه الهارمونيكا تطلق أنغامًا تحملك إلى جبال الإنديز وغابات الأمازون حين تغمض عينيك، وكل هذا بخمسين سنتاً فقط، أليست ثقافة؟

ما هي الثقافة إذن لو لم تكن متجسدة بتمظهراتها اليومية؟

سوى أن العين المتعجلة، والعقل المُربك المزحوم بالخطط الساحقة، واللحاق بالمواعيد التي لا تنتهي، جميعها أدوات الشيطان التي يحاول بواسطتها حرماننا من انسانيتنا والتمتع بتلك التمظهرات ونِعمها،  طالما كان ذلك ممكناً.

"الطريق الثقافي" العدد 149