منذ أن قرر البنك المركزي رفع سعر صرف الدولار إلى 1320 وما تبعه من انخفاض قيمة الدينار العراقي وانعكاساته على الوضع الاجتماعي والاقتصادي في العراق، لم يستطع بسياساته تلك مواجهة نتائج قراره الذي تحول إلى عاصفة متوحشة أيا كان حجم كميات الدولار المباعة عبر نافذته ذلك لأن شراء العملة الأجنبية من هذه النافذة يذهب بها إلى ثلاثة اتجاهات، الأولى إلى المضاربات المالية والثانية لأغراض التجارة الخارجية والثالثة عملية تهريب منظمة وغسيل أموال بعمليات احتيالية.
كما أن البدء بالمنصة الاليكترونية والامتثال لنظام التحويل المالي (سويفت) لم يؤد إلى استقرار سعر الدولار او تراجع ملموس في سعر صرف الدولار رغم محاولات البنك المركزي السيطرة على هذا السعر في الأسواق الموازية، بل أكثر من هذا فإن منع 14 مصرفا من التعامل بالدولار قد عمق الأزمة ولم يهدئ منها مما اضطر البنك المركزي للانحناء امام العاصفة على الرغم من تأكيدات رئيس الوزراء وإقرار موازنتي 2023و2024 ووافقه في ذلك تأكيدات العديد من المسؤولين على رفع قيم الدينار. وتعود أسباب هذه العاصفة بل وديمومتها إلى العلاقة بين الإنفاق العام والطلب على الدولار فان هذه الزيادة من خلال قوى السوق المحلي بنسبة 60 في المائة من اجمالي النمو في العملة المصدرة بمعنى العلاقة العكسية بين الانفاق العام والاحتياطيات الأجنبية المتأتية من إيرادات النفط غير الكافية لسد الطلب المحلي من العملة الأجنبية.
ومن جانب آخر فإن أمام أزمة الدولار مشاكل هيكلية لم تلفت نظر القائمين على السياستين المالية والنقدية، فان السعر الحكومي للدولار يباع ب(1320) دينار فيما تقوم المصارف ببيعه ب(1470) دينار ووصل في بعض الأحيان إلى( 1700 ) دينار في السوق الموازي، ولم تسعف اجراءات البنك المركزي بإعادة السعر إلى (1300) دينار الا إلى انخفاض مؤقت ولكنه لم يحقق الاستقرار المستدام، والإجراءات التجريبية لرفع قيمة الدينار للمسافرين العراقيين كانت فاشلة بسبب عدم جذريتها لاعتمادها على ترددات هذه التجارب وبدون مراجعة لإعادة تنظيم القطاع التجاري والزام المصارف بالالتزام بالمعايير الدولية والبنك الفيدرالي الأمريكي صاحب اليد الطولى في حركة الدولار في عمليات التحويل اليومية.
إن الاتجار بالعمالة الأجنبية عبر منظومات تشكلت بعد عام 2003 لتتولى استيرادها من الخارج وإدارة توزيعها على دوائر الدولة والقطاع الخاص على حساب العمالة الوطنية التي تزيد نسبة البطالة فيها على 16 في المائة لما تسببه هذه المشاريع الوهمية المدعومة من قوى متنفذة إلى اخراج العملة الصعبة من الاحتياطي النقدي بما تصل إلى ملياري دولار سنويا فضلا عن الضغوط التي تولدها على البنية التحتية والخدمات العامة كالإسكان والرعاية والصحة العامة والطلب على العملة الأجنبية في السوق الموازية وارتفاع معدلات التضخم خاصة ان التقديرات تشير إلى وجود مليون عامل اجنبي وان 7 في المائة منهم فقط حصلوا على موافقة وزارة العمل.
إن ارتفاع سعر الدولار والاضطراب المتولد في حركة العملة مما يسبب ارباكا في الاقتصاد وبصورة مباشرة على الأسعار مع ما يصاحبها من ارتفاع في معدلات التضخم وتداعياتها على مستوى معيشة المواطنين، والأكثر تضررا هم الشرائح واطئة الدخل والتي لا دخل لها سوى معونة الرعاية الاجتماعية المتواضعة، وهؤلاء يشكلون نسبة تزيد عن النصف من المجتمع العراقي وتزيد من معدلات الفقر وافتقار حصتها من الدخل الوطني والخدمات العامة وبهذا المستوى المتدني تكون هذه الشرائح في مواجه عاصفة الدولار.
إن مواجهة عاصفة الدولار تلك يتطلب كخطوة أولى وبصورة مؤقتة الامتثال لمتطلبان منصة سويفت الالكترونية للتحويلات النقدية وينبغي على المصارف العراقية تسجيل تحويلاتها على هذه المنصة والتخلي التام عن نظام التحويل القديم الذي يسمح بالكثير من التجاوزات، ومن الضروري أيضا قيام الحكومة العراقية ما دامت في طور التجريب القيام بالتبادلات النقدية بالدينار العراقي في السوق الداخلية اما على المدى المتوسط والبعيد التعامل بعملات أخرى غير الدولار كاليوان الصيني او الدرهم الاماراتي او الروبية الهندية في التعاملات الخارجية وبصورة تدريجية.