لم يعّد وصف الشيوعية بالحلم "الطوباوي"، مقتصراً على خصوم اليسار الطبقيين لوحدهم، بل امتد ليصبح من متبنيات بعض أنصاره، مشكّلاً إنكفاءً صارخاً لهم، خاصة بعد أن فرض انهيار الأنظمة "الاشتراكية" عتمة على الوعي، تشتتت بها الأذهان.
فاليسار الذي لا يتسع أفقه للبحث عن مجتمع بديل للرأسمالية، يُنهي الخوف والاغتراب ويحقق المساواة في الحرية والثروة، يسار خائف ومحافظ وأسير واقع مرّ، يتزامن فيه تفاقم الاستغلال مع القدرة على إخفائه، ومحاصرة الأخلاق مع ديستوبيا تجّمل مدن الشر الفاسدة. واقع يمّجد تعويذات ملفقة تبرر شقاء الشغيلة ورفاه الأقلية المتخمة، وينشر حُجباً داكنة بعناوين مختلفة، تُفقد الناس البصر والبصيرة وتحيلهم لشخوص حائرة.
وكما كان على الفلاسفة تغيير العالم وليس تفسيره (كارل ماركس)، كان على اليسار أن يُعمل العقل في تجارب الأمس ومعطيات اليوم، ليحدد معالم المجتمع البديل، وأن لا يكتف فقط بوصف عالم الرأسمالية المُشبع وحلاً وقذارة، بما سببه ويسببه من حروب لا نهاية لها، من خراب للطبيعة، من مجاعات وغلاء وأوبئة وأمراض وتمييز عنصري، من وأد الثورات المعّمدة بالدم وتحويلها لإنظمة شمولية أو ثيوقراطية أو إغراقها في فوضى الاحتراب الطائفي والقومي والقبلي وحتى الثقافي.
إن تمسك اليسار بأحلامه بقوة أكبر ليست طوباوية كما يزعمون، فعلى الرغم من أن التاريخ كتبه المنتصرون، فقد تمّكن أصحاب الحق الذين هُزموا، من الوثوب مجدداً لأنهم بقوا متمسكين بحلمهم. وإذا كان الماضي بكل ما فيه من بسالة وبهاء، مُثقل بالتضحيات فأنه مليء بعِّبر تصلح مفاتيح نهوض جديد لليسار وأفقاً ثورياً أجمل لعوالمه، عِبَر يتقد بها خيال الثوري فيكسر جدران العتمة لينهمر الفرح والضياء. ألم يحلم ثوار فرنسا وكومونتها بالعدل والحرية رغم المقاصل التي كانت تحز رقابهم، ذاك الحلم الذي رأى النور بعد 128 عاماً في ثورة أكتوبر العظمى؟ ألم يكن خيالاً أن نحلم بانتصارات الشعوب في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والهند الصينية، حين أطلق جيفارا صرخة استشهاده؟!
وقطعاً، لا يمثل هذا القول، عودة خجولة لمفاهيم الحتمية التاريخية، لأن على اليسار هنا أن يصنع المستقبل لا أن ينتظره، أن يبقى متمسكاً بالأمل، وأن يبدع في خياله ويحث الخطى نحوه، وأن لا يعير انتباهاً لمزاعم الخصوم والأعداء التي تريد ليس تحطيم الحلم فحسب، بل وكل قيم النضال لتحرير البشرية، واستبدالها بثقافة الفرد الأناني، والمستهلك والخائف من الواقع المرير، والقلق على مستقبل مظلم، والمستعد للخنوع عسى أن تتقلص خسائره.
ولكي يكسر هذا اليسار حاجز التردد، لا بد من أن يتخلص من الحنين للماضي وما يسببه من كآبة وقلق، وأن يحقق ويمّتن وحدته، ليس في الوثائق والبيانات، بل في حركة جماهيرية ميدانية ذات سياسات طبقية واضحة، تتجاوز الإصلاح إلى مهام تحقيق التغيير الشامل.
إن الحلم لليساري نبض حياة، فبدونه يصبح الواقع ثقيلاً وخانقاً ومثيراً للحزن، ويبدو المستقبل غامضاً ومهدداً للاستقرار، ولهذا دعت أطراف يسارية عديدة إلى تنشيط الحوار حول فكرة المجتمع الشيوعي، وتحويلها من حلم فلاسفة إلى مشروع تحرري عالمي، يستفيد من تقويض العولمة الرأسمالية لنفسها، جراء التسارع الهائل في تطور القوى المنتجة والتخلف الشديد في علاقات الإنتاج، فمستقبل ما بعد الرأسمالية يظهر جلياً في آليات التدمير الذاتي للرأسمالية، كالتناقضات بين الوفرة والندرة، بين زيادة العمالة الماهرة والإنتاجية والأتمتة وتفشي البطالة واتساع التفاوت الطبقي، بين استثمار البيئة في الربح وتدمير نظم حمايتها.
على هذه التناقضات الدالة على فناء الرأسمالية، يبني اليسار حلمه ويعمل، كي ينتصر!