يحرص احد الأصدقاء على تنبيهنا بين فترة وأخرى الى ضرورة قول شيء عن منهج المحاصصة والطائفية السياسية، والتدليل على صحة قولنا انه أسّ الازمات التي حلت وما زالت بوطننا وشعبنا.
والموضوع يستحق بالفعل التوقف، وكان محط اهتمام الحزب الشيوعى العراقي منذ مؤتمره الوطني الثامن (أيار ٢٠٠٧) ، وقد تناوله بتفصيل في التقارير السياسية الصادرة عن مؤتمراته الوطنية: التاسع (أيار ٢٠١٢) والعاشر (كانون الأول ٢٠١٦) والأخير الحادي عشر (تشرين الثاني ٢٠٢١)، وفي العديد من الوثائق الاخرى الصادرة عن قيادة الحزب.
وقد بيّنت هذه الوثائق في اكثر من موقع ان الازمات المتتالية التي تعرض لها بلدنا وما زال، يكمن سببها الرئيسي في اعتماد نهج المحاصصة الطائفية – الاثنية، الذي أسهم محتلو بلادنا بعد التاسع من نيسان ٢٠٠٣ في اعتماده وترسيخه، وقاتل المتنفذون معهم وبعدهم ويقاتلون لادامته، بعد ان اختزلوا المكون او الطائفة التي يدعون تمثيلها في كتلهم السياسية. وهي الكيانات التي صارت تتحكم بها هي ايضا عوائل وافراد، وتستخدم ذلك كله غطاءً للهيمنة على الحكم والقرار، ولادامة المصالح والاستحواذ على المناصب وتقاسم النفوذ مع بقية المتحاصصين، ولا ضير عندهم ان اختلفت القومية او الطائفة او المذهب طالما يتحقق التخادم.
وقد تسبّب هذا النهج في سوء الإدارة، وفي الأداء غير الكفوء لمؤسسات الدولة وترهلها، وعجزها عن القيام بواجباتها. كذلك في التفريط بالكفاءات الوطنية، والاعتماد على الدائرة الضيقة من المقربين والمحازبين والموالين، بل والتوسع في ذلك على حساب الحاجة الفعلية والكفاءة والقدرة على انجاز العمل. وهذا ما تجلى بشكل واضح في تعيينات الدرجات الخاصة، وفي الاعداد الكبيرة من المعينين وكالة. حتى اخذت سلطات القرار تتركز في أيدي دائرة ضيقة جدا، وازداد الميل الى التفرد، وانتعشت حالة الاقصاء والتهميش.
وحال اعتماد نهج المحاصصة التخادمي في النهاية دون تكريس دولة المؤسسات والقانون، وأمّن غطاء سميكا للفاسدين وحماهم من المحاسبة والمساءلة. وبجانب ذلك جرى التفريط بمبدأ الفصل بين السلطات، فتداخلت الصلاحيات واختلط الحابل بالنابل، ولم تسلم حتى الهيئات المستقلة من ذلك.
وبسبب من طبيعة القوى المتنفذة ونمط تفكيرها وآليات عملها، نراها تلجأ الى التسويف والمماطلة وإبرام الصفقات مع بعضها، مفضلة ذلك على المنهج القانوني والدستوري. وهذا ما يتجلى على سبيل المثال في هذه الأيام، إذْ يُراد تمرير التعديلات المرفوضة شعبياً على قانون الأحوال الشخصية النافذ، وحيث تسعى القوى المتحمسة للتعديلات الى مقايضة المصادقة عليها بإقرار قانون العفو العام!
وامتد اخطبوط المحاصصة الى اللجان البرلمانية، التي يتقاسم المتحاصصون انفسهم رئاساتها، ما اثر ويؤثر سلبا على دورها وادائها. وهذا يسري على عمل وأداء الحكومات المحلية ايضا ومجالس المحافظات، والتي عجز بعضها عن مباشرة عمله وتسمية رئاسته واختيار المحافظين.
لكن الأخطر ربما ضمن ما سببه هذا المنهج الفاشل، هو طمس مبدأ المواطنة والتخلي عنه، وتشجيع الانتماءات الفرعية على حساب المواطنة الجامعة، والامعان في التوظيف السياسي للدين. وفي مجرى تبني منهج المحاصصة الفاشل جرى تكريس مفهوم دولة المكونات، الذي يعني في الممارسة العملية، مزيدا من الانقسام المجتمعي وتمزيق الوحدة الوطنية. ويقينا ان الامعان في ذلك سيجعل الدولة كيانا موحدا بصورة شكلية وهشىا، فيما هي واقعا تُحكم وتُدار على ايدي من يدعون تمثيل تلك المكونات، وهم في جميع الأحوال اقلية في مقابل غالبية ساحقة من أبناء الشعب، على اختلاف قومياتهم واديانهم ومذاهبهم وطوائفهم .
وتتوجب الإشارة أيضا الى انه في ظل تحكم هذا المنهج، اتسعت التدخلات الخارجية في شؤون بلدنا بما يثلم القرار الوطني العراقي المستقل .
هذا غيض من فيض كوارث المنهج المحاصصي، الذي لا يجلب استمرار اعتماده سوى المزيد من الأزمات، والذي لابد لأي مسعى لتحقيق الإصلاح والتغيير الجدي، من التركيز أولا على الخلاص منه.