رغم ما قدم الحراك الجماهيري والمطلبي والاحتجاجي وانتفاضة تشرين المجيدة من دروس وقيم عميقة، وما كشفا من عورات منظومة المحاصصة والفساد ونهج ادارتها مؤسسات الدولة، فان القوى المتنفذة والماسكة بالسلطة لم تتعظ بما حصل ويحصل فتقوم بمراجعة جوهرية لمجمل أوضاعها ونهجها، بل وتصرّ على مواصلة المسار البائس والفاشل والمدمر ذاته. يحدث هذا رغم التدهور البيّن في أحوال البلد على الصعد المختلفة، وتمادي القوى نفسها كثيرا وبصورة ممنهجة، في الفترة الأخيرة خاصة، في الحد من مساحة الحرية، وفي قضم ما تبقى من هامش ديمقراطي، مثقل أساسا بالكثير من الممنوعات وبكل ما يحول دون تمدده وتوسعه.
كل هذا يضع بلدنا امام خيارات صعبة وتحديات جمة. فاحواله لا تسرّ على رغم كل الادعاءات والاحاديث المنمقة عن الحريات والاستقرار والأمان والرفاه الموعود. وهذه الوعود تكررت على لسان الحكومات كلها منذ ٢٠٠٣ حتى اليوم، لكن الواقع رغم كل إيرادات البلد الضخمة، ان مناطق كثيرة حتى في العاصمة بغداد، لا تحصل على الماء الصالح للشرب مثلا، ناهيك عن الكهرباء التي كلما يتذكرها المرء يصاب بالغثيان.
والجانب الآخر المهم في الصورة الكالحة والذي يتجلى كل يوم، يتعلق بعجزالمنظومة الحاكمة والمتنفذة الجليّ عن اخراج البلد من عنق الزجاجة. وهي ليست غير قادرة على ذلك وحسب، بل انها غير راغبة في ذلك أساسا، نظرا لما يدره عليها الوضع القائم من فوائد جمة، ولإدامته سلطتها ونفوذها. والراكضون وراء الكراسي والمناصب والامتيازات والنفوذ، لا يهمهم ان يحصل ما يحصل ولو على حساب المكونات التي يدعون تمثيلها، والتي تتعاظم معاناة بناتها وأبنائها.
ان حالة الانسداد، والتمادي من قبل القوى المتنفذة، وما اتخذت أخيرا من إجراءات وفرضت من تشريعات وقوانين، تظهر ان استمرار الحال لن يعني الا المزيد من التراجع والتدهور في الأوضاع العامة. وهذا ما يدفع للتشديد مجددا على الحاجة الماسة الى التغيير، الذي يتطلبه مجمل مسار الاحداث وتطوراتها في بلدنا.
ويتوجب التوضيح ان الحديث عن التغيير لا يرتبط هنا بحادث معين او اجراء محدد تقوم به الحكومة او احدى مؤسسات الدولة. فالموضوع أشمل من ذلك، ويتصل بالمنهج الخاطيء والفاشل، والإصرار على التمسك به. وعليه فالتغيير مطلوب لوقف هذا الانزلاق نحو الأسوأ، وإنقاذ البلد ووضعه على طريق التطور السليم، ولتأمين انطلاقة جديدة تعالج ما ارتكبه وراكمه المتنفذون من أخطاء وخطايا بحق الشعب والوطن، وصولا الى التغيير المنشودَ.
لكن السير على هذا الطريق الصعب يحتاج الى إرادة قوية فاعلة، وثقة بالنفس، وبالجماهير وقدرتها على اجتراح المآثر وصنع ما يقرب من الخيال. الأمر الذي يحتاج الى الصبر ومراكمة حتى الصغير من النجاحات. وقبل هذا وذاك تبرز الحاجة الملحة الى العمل الجاد، المخطط والممنهج، على تنمية الوعي الجمعي والارتقاء به الى مستوى المحفز على الفعل الجماهيري المنظم والواسع. ومن هنا فان تنمية الوعي بالمصالح الجوهرية، بعيدا عن التفرعات، هو أساس الوصول الى قناعة بأهمية وضرورة العمل المنظم، والانتقال من المعالجات الفردية الى الحالة العامة الشعبية، وعلى ان يشمل هذا الحراك الواسع المدرك لمصالحه، فئات وطبقات مجتمعنا ومن كل الاطياف.
ويقينا ان دفعة قوية على طريق تنمية الوعي بالمصالح، يمكن ان تتحقق مع توفر القناعات بان أوضاع البلد ليست قَدَرا لا مرد له، وانما هي من فعل فاعل وتحديدا هي مسؤولية الكتل المتنفذة والحاكمة والماسكة بالقرار.
ويبقى القول إن تنمية الوعي والارتقاء به مرهونان بما تقوم به قوى التقدم والحرية والديمقراطية، قوى التنوير والثقافة، وكل من يعتقد ان بلدنا وشعبنا يستحقان الأفضل.