اخر الاخبار

في خضم الصراع الطبقي المتزايد على الصعيدين الوطني والأممي، تحتدم الحوارات بين أطياف اليسار في العالم، حول أولويات مهماته الكفاحية ومديات واشتراطات توسيع قاعدته الاجتماعية. ففيما تُجمع الأغلبية على ضرورة أن يُّعبأ كل ضحايا السياسات النيوليبرالية، في مجرى نضال اليسار ضد ما سببته هذه السياسات من تراجع كبير عن مكتسبات الشغيلة في العالم الرأسمالي ومن هجوم شرس على حقوق الكادحين في الأطراف ومن تخريب متواصل للبيئة ومن تزايد في النزعات الفاشية لليمين المتطرف، يختفي هذا الإجماع عند الحوار حول مدى حاجة اليسار للتحالف مع القوى المتضررة التي تكتفي بمناهضة الليبرالية الجديدة دون أن تتقاطع مع الرأسمالية كنظام يتناقض وآدمية البشر، فنرى من يريد أن تُقتصر العلاقة مع هذه القوى على التنسيق، ومن لا يجد ضيراً في علاقات إستراتيجية معها.

ويبرر هؤلاء وجهة نظرهم بخطورة التغيير الذي أحدثته العولمة في بنية الدول الرأسمالية لضمان هيمنة الشركات الاحتكارية على العالم، هذا التغيير الذي نجده واضحاً في توسيع الوظيفة القمعية للحكومات واضطراب العلاقة بين السلطات الثلاث وحدوث بعض التراجع عن الشرعية الديمقراطية المتحكمة بآلية إدارة الصراع الاجتماعي والسياسي وفي التعامل مع مشاكل البطالة والمخدرات والهجرة والمافيات والحروب بالنيابة، وفي اشتداد قلق الناخبين وميلهم للفردية بعيداً عن روح التضامن. وما فوز ترامب وأوربان وميلوني وغيرهم سوى دلائل على ذلك.   

وتشير أطياف اليسار هذه إلى أن من أخطر برامج اليمين التي يجب احباطها في الدول التابعة، سعيه لتشجيع وتمّكين الهويات الفرعية ومنحها العلوية على الهوية الوطنية والعمل على تحويل الصراع الطبقي إلى نزاعات طائفية وعرقية، تتفتت بسببها التشكيلات الاجتماعية وتتحول إلى مكونات سكانية متناحرة، عاجزة عن تبني مهامها الوطنية، إضافة إلى دعمه للاستبداد وحمايته بأحلاف عسكرية، وعرقلة بناء انظمة تعتمد الشرعية الديمقراطية، التي تُستبدل بالتوافق المكوناتي، كشريك إستراتيجي لداهقنة العولمة المتوحشة.

ولهذا ترى هذه الأطياف بأن جمع أكبر عدد من الأعضاء والمناصرين في هذا الصراع قضية مركزية، يساعد على إنجازها، التدقيق الأكبر في اختيار القضايا والمعارك، والتدخل المباشر وبرؤية علمية في ما يؤثر على حياة الناس اليومية، كالخدمات وفرص العمل والأجور والسكن والرواتب التقاعدية والتأمين الصحي والتعليم، وعدم الاكتفاء بالتركيز على غياب المساواة الاقتصادية. وإذ تعّول هذه الأطياف كثيراً على فن تحديد الأولويات، تؤكد على التمسك بالرؤية الاشتراكية للتنمية طويلة الأمد. 

كما ترى بأن على اليسار أن لا يقتصر اهتمامه بالوسط الثقافي وبمؤازريه التقليديين، بل أن يتفنن في التواجد على جميع المنابر التي ترفع صوت الاحتجاج، بشكل لا يتم فيه إهمال أية مواجهة مع ما يقوم به اليمين واليمين المتطرف من إعادة تشكيل المجتمعات والانقسامات المتزايدة التي يحدثها عمداً فيها، لأنه ليس كافياً أن يحظى اليسار بثقة الناس، بل يجب أن يحظى برغبتهم الشديدة في أن يدير هو لا غيره شؤونهم.

وكي تحقق المواجهة نتائج ايجابية، تدعو بعض الاطياف إلى تشكيل تحالف يضم إلى جانب الطبقة العاملة و الفقراء المهمشين  و فئات الفلاحين الخاضعين لأشكال استغلال رأسمالي وما قبل رأسمالي والعاملين في القطاع التعاوني، الفئات الوسطى أيضاً من أصحاب المهن الحرة وذوي الياقات البيضاء، إذ أدى التطور التقني لرأس المال إلى الضغط الشديد عليهم ودفعهم لخوض النضال والنقابي منه بشكل خاص لحماية حقوقهم في مواجهة الاستغلال، مما خلق تقارباً كبيراً بينهم وبين الشغيلة، وفسح لهم مجالاً في قاعدة اليسار الاجتماعية، يقتضي أن يكون له صدى ببرامجه وسياساته.

عرض مقالات: