اخر الاخبار

كلما اشتدت أزمة منظومة المحاصصة وافتضح زيف ما وعدت به من خيرات، وكلما تحدى الحراك الشعبي القمع والترهيب والسلاح المنفلت وشراء الذمم، تصاعد العواء، تارة لإشعال نار الفتنة الطائفية وبث الأفكار الشوفينية والعنصرية في محاولة لإذكاء الاستقطاب، وتارة لتزوير التاريخ بغية حجب ما به من صفحات مشرقة ولتبرئة بعض الطغاة والمجرمين. ولعل من أبرز تلك الصفحات التي يراد التعتيم عليها وتشويهها، ثورة 14 تموز، حيث يُخطط ومنذ فترة طويلة، لإلغاء الاحتفاء بها كعيد، يبتهج فيه العراقيون باستذكار ما حققته.

وإذا كنت لا أجد معنى لمناقشة العفلقيين وأيتامهم، ممن أجرموا بحق الثورة ودأبوا على الإساءة لها، أو للرد على بعض المتثاقفين، ممن استحلوا فكرة الليبرالية، دون أن يفقهوا مضمونها أو يتمثلوا قيمها في متبنياتهم، وعلى الببغاوات العاملة بالقطعة مقابل ما يُصرف لها من عطايا السحت الحرام، فإن حماية الأجيال الشابة من التدليس، تتطلب منا جميعاً صيانة الذاكرة الجمعية للناس.

إن مقارنة سريعة بين العهد الذي افتتحته ثورة 14 تموز وبين العهد الذي يريد شطبها من تاريخنا، كافية لمعرفة من يستحق أن يحتفي به شعب العراق. ففي ذلك اليوم من عام 1958، فجرت جماهير الشعب ثورة شعبية حررتنا من هيمنة الإستعمار البريطاني ومن قيود حلف بغداد، وأشاعت الحريات وحققت إجراءات مهمة على طريق العدالة كقانوني الإصلاح الزراعي والعمل، وعلى طريق الاستقلال الاقتصادي كقانون التخلص من التبعية للجنيه الإسترليني وقانون رقم 80 لاستعادة ملكيتنا للنفط، وعلى طريق التنمية الاجتماعية كقانون الاحوال الشخصية وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة واحترام علويتها وتأمين الشراكة العربية الكردية في هذا الوطن. إن جردة بسيطة لما تحقق في أربع سنين، سترينا كيف تحسن دخل الناس بنسبة 52 بالمائة، وكيف زادت ميزانية التعليم بنسبة 400 بالمئة والصحة بنسبة 200 بالمائة، وكيف بُنيت 2334 مدرسة و776 مركزاً لمحو الأمية و21 مستشفى و49 حياً سكنياً، وحتى أقيمت مدينة الطب وجامعة بغداد وملعب الشعب ومعرض بغداد وميناء أم قصر و22 جسراً و14 مشروعاً للري والبزل وثلاثة سدود وثلاث مزارع كبرى للدولة و51 مصنعاً، وكيف شملت التغذية المدرسية نصف مليون تلميذ. 

وبالمقابل، سجلت ذاكرة العراقيين منذ عقدين، ما غمرتهم به منظومة المحاصصة من أزمات، انتُهكت بها سيادة البلاد، وأهدرت ونهبت بسببها ثروات العراقيين، وأوصل فيها أحد عشر مليوناً منهم إلى ما دون مستوى الفقر، و حُرم بها أولادهم من التعليم المجاني الذي استبدل بعشرات المؤسسات الأهلية الفاشلة، وحّولت بسببها مستشفياتهم إلى مسالخ بشرية وسُرقت الأموال المخصصة لتطبيبهم وتوفير الأدوية لهم، وتم التفريط بحقوق البلاد المائية ودُمرت زراعتها بحيث لم تعّد تساهم سوى بأقل من 5 بالمائة من الدخل القومي، و أُبقيت مصانعها خرائب حتى لم تعد مساهمة الانتاج الصناعي تتجاوز 2 بالمائة، وأُغرقت أسواقها بالسلع الرديئة المستوردة، ووقع بسببها الملايين في ظلام الأمية، وجرى سلب حقوق النساء وشرعنة العنف الأسري ضدهّن.

كما سجلت ذاكرة العراقيين ايضاً، سببين لحقد الأوليغارشية الحاكمة وحلفائها من البيروقراطيين والطفيليين وسراق المال العام والكومبرادور والإقطاعيين الجدد، على 14 تموز، أولهما ثأر تاريخي بسبب ما أعادته الثورة من حقوق لأصحابها الشرعيين من الشغيلة والفلاحين، وثانيهما محاولة منع الأجيال الشابة من أن تستمد من الثورة قوة المثل التي تحفزها على اجتراح مآثر مشابهة.

وتبقى الإشارة إلى أن أهم ما ستسجله ذاكرة العراق التي لا تغفر، مواقف كل الوطنيين المدافعين عن العيد الوطني، 14 تموز، وعناوين من لم يتخل عن حمايته.

عرض مقالات: