اخر الاخبار

اختلطت الفرحة الاستثنائية التي غمرتني وانا أشارك في مسيرة الأول من آيار، مع جملة من المشاهدات التي جددت اليقين بقوة الشغيلة على الإبداع وعلى نثر وروده ليستنشق الجميع عبيرها ويتجلى لديه الإحساس بجمالها. كما كشفت لي حجم إصرار هذه الطبقة على أداء دورها التاريخي، مهما غلت التضحيات وادلهمت عتمة القمع والاستغلال.

فمن بيوت الطين وصرائف السعف والقصب، ولد الكفاح الطبقي بالتزامن مع ولادة الدولة العراقية المعاصرة. وكحدث يشبه البداهة، تخضبت بعد سنة واحدة، راية الحرية بدم أول شهيد عمالي دفاعاً عن الوطن. ولم تمض سوى سنوات حتى انهمك عامل آخر في بناء حزب الشغيلة الذي نحتفي هذا العام بعيده التسعين، فاشتعلت مؤسسات الطغاة منذ المحتل البريطاني وحتى اليوم بلهيب الاضرابات والاعتصامات العمالية، وبقيّ هذا اللهيب متقداً، يؤكد على قضايا واضحة وبسيطة كالحقيقة، رغم تفاوت شعلته بين فترة وأخرى لأسباب ذاتية وموضوعية.

ولعل من أبرز تلك الأسباب، الحاجة لإدراك أمر يشير إلى أن ما تعطيه مآثر التاريخ الكفاحي للشغيلة، من نكهة التفرد بين كل القوى الفاعلة، ومن جاذبية تحفز الكثيرين من الشباب على الانتباه لها، لم تعد كافية لوحدها، فالوعي الذي يمّهد لتعبئة الأجيال الشابة، بات يحتاج إلى قراءة مختلفة للفكرة ومكملة لها، في عصر إنكار الصراع الطبقي والترويج لاستبداله بالصراع القومي والحضاري والطائفي، بحيث صار لزاماً التعامل الدقيق مع التغيير النوعي في طبيعة الشغيلة ووعيها وعديدها ودور الابتكارات الحديثة كالثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، وبحيث أصبحت الإجابة على الأسئلة الكبرى حول مسار العولمة ومخاطرها على السلام والبيئة ومصالح شعوب الدول الرأسمالية و التابعة، وقضايا القومية والدين والهوية والهجرة وإعادة توزيع الثروة، مهمة وجودية.

إن الإكتفاء بترديد مصطلحات محددة مثل شرور الرأسمالية ومناهضتها وثورية البروليتاريا ودورها وحتمية قيام المجتمع اللاطبقي، دون القدرة على إقناع الناس بها ودون الكشف عن أسباب ما هم فيه من تعاسة لا خلاص منها، لم يعد قادراً على تحقيق حصاد وفير، مما يشدد على حاجة اليسار لعمل جماهيري مضّن وتطور فكري يستند لمؤسسات بحثية وقنوات تواصل نشطة مع المفكرين والمثقفين العضويين، في ظل تعامل نقدي وإيجابي مع كل أطروحاتهم.

كما يمكنني أن أزعم، بأننا نبصر في تلك القضايا الحاجة لجمع غير ميكانيكي بين أشكال النضال، وقدرة متميزة على تغييرها بطريقة سريعة وجريئة، بما في ذلك ابتكار طرق جديدة للاحتجاج ونشاط نقابي مختلف في الشكل والمضمون وحركات شعبية مؤقتة ودائمية ذات أهداف محددة. قبل مائة عام منعت الشرطة القائد العمالي الأوربي أوغست بالم من إقامة تجمع عمالي، فركب قارباً في النهر وراح يتحدث للعمال وهم يسيرون على الشاطيء، منصتين له!

إن الهيمنة الخطيرة التي يتمتع بها اليمين، بكل تلاوينه وشعاراته وأيقوناته وطرقه الملتوية في مناهضة الديمقراطية وخنق منافذ التنظيم، وتوظيفه السلطة والثروة والقانون ومؤسسات التعليم والإعلام والحركات الاجتماعية لحماية هذه الهيمنة وغلق الطريق أمام تحرك الشغيلة وحلفائها، يجب أن يكون سبباً إضافياً لمقاومة يسارية موّحدة، مقاومة واضحة الأهداف متنوعة الأساليب.

إن نجاح اليسار في نقل الشغيلة لضفاف النصر، يتطلب تحديداً دورياً لحلقة النضال المركزية وفق الواقع الملموس على الصعيدين المتلازمين الوطني والأممي، وبناء الصلات مع الحلفاء الحقيقيين، وعدم الجزع من انتظار التراكم الكمي والنوعي لثمار النضال، فاليسار الظافر هو القادر على أن ينظر إلى الوراء وإلى الأمام، يتذكر ما تحقق، ويحترم التاريخ ويتعلم منه، يتعامل بصدق مع الحاضر فيضمن المستقبل.

عرض مقالات: