وفي إطار البحث عن سر الفتّوة المتجددة للحزب في عيده التسعين، للفتى العراقي الذي لا يشيخ، يبرز لنا نجاح تشخيصه لطبيعة الخصوم الطبقيين. فقد ميّز الحزب بين الفئات البرجوازية، رافضاً التعامل مع من يتبع منها المحتل البريطاني وتتشابك مصالحه معه، فيما مدّ يد التعاون مع من كان منتجاً ويرفض المستعمرين، وإن خسر برحيلهم مصالحه. ولهذا لم يتخل الشيوعيون يوماً عن التحالف مع كل القوى المناهضة للإمبريالية والتخلف والاستبداد، وصاروا ملتقى لتجمع كل الخيّرين، وحافظوا على صدق شعاراتهم، حتى حين فضّلت بعض القوى مصالحها الطبقية الضيقة وانقلبت على مشاريع التعاون الوطني وخربتها. ولهذا دعم الناس الحزب وأبقوه فتياً.
وباعتباره طليعة لشعب متعدد الأعراق، تبنى الحزب موقفاً ماركسياً ناصعاً من القضية القومية، فربط بين حلها وبين الديمقراطية في البلاد، وكان أول من رفع شعار الاستقلال الذاتي لكردستان، وأول من وجد في الفيدرالية شكلاً لضمان حق تقرير المصير للشعب الكردي، وفي اللامركزية الإدارية وسيلة لتأمين حقوق القوميات العراقية الأخرى، فأُضيئت ساحاته بمشاعل العرب والكرد والتركمان والكلدوسريان آشوريين والمندائيين وغيرهم، وبقيّ فتياّ كمرآة لوحدة كل تلكم الأطياف.
ولنهجه الأممي الواضح، حظي الحزب باحترام كبير في الحركة الشيوعية وعالم اليسار، وناهض دوماً الإمبريالية والعولمة الرأسمالية وما ألحقته سياساتها المتوحشة من كوارث بالبشرية، وربط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، على الصعيدين المحلي والعالمي. وانتُخب العديد من نشطائه لقيادة منظمات مهنية واجتماعية دولية كاتحادات الطلبة والشبيبة والمرأة والصحفيين وأنصار السلم العالمية. في الثمانينيات، دعت منظمتنا في المجر قيادياً في الحزب الشيوعي التشيلي للحوار حول سبل النضال ضد الدكتاتورية الفاشية. بعد الحوار، حدثه رفاقنا عن حملات التضامن التي قمنا بها دفاعاً عن الشعب التشيلي، يوم وقعت ضده مجازر بينوشيت وأسياده الإمبرياليين، حتى راح الكثير من العراقيين يرددون أغانينا عن سانتياغو. دهش الرجل وأحرج إذ لم يجد ما يقوله عن تضامنهم معنا يوم سعت البعثفاشية لذبحنا. حينها شعرنا بزهو كبير، مفتخرين بما نهلناه من نبع الأممية حتى صرنا - وبتواضع شديد- مثالاً يُحتذى به.
وارتوت أجيال عديدة من الشيوعيين من نبع التضامن هذا، فترسخ فيهم الترابط بين الوفاء والتضحية، ومُنحت أرواحهم سلاما ورؤاهم وضوحاً وتعلموا أن ثنائية الحياة والموت إنما ترتكز على الإيثار، نبراساً، إن أضاؤوه عاشوا أبداً وإن أظلموه ماتوا، فتوحدوا بنوره وأبصروا في كل المرارات أفقا من يقين، وبقيّ الحزب بهم فتى لا يشيخ.
وكانت نهاية الثمانينيات مرحلة قاسية بكل المعايير، إثر الضربات الموجعة التي شنتها الدكتاتورية للحزب، سواء ضد منظماته السرية أو فصائل أنصاره البواسل، والتي اشتدت قساوتها لتزامنها مع انهيار التجربة الأولى للإشتراكية. وظن الكثيرون بأن كبوتنا ستطول، لكننا خيبنا ظنونهم، فلم تمض سوى خمس سنوات حتى عقد المؤتمر الخامس وتبنى برنامج التجديد الذي أضفى نضارة على الفتوة التي أشرت اليها، إذ أدرك الشيوعيون بأن شرط التجديد هو الخلاص من عصمة المألوف وتغييره كليا أو جزئياً، على أساس إعمال العقل في الواقع. وأن الديمقراطية البرجوازية قد استنفدت دورها ولا بد من كسر قيودها عبر إقامة الديمقراطية الاشتراكية. وأن أول مهمة على هذا الطريق الخلاص من الاقتصاد الريعي، وتطوير القوى المنتجة وتكريس نسب أكبر من الثروة للاستثمار، وتعزيز النضال من أجل العدالة الاجتماعية، وتحقيق الديمقراطية السياسية وحمايتها. كما أكدوا على ان الإشتراكية عملية تنموية متجددةً ومرحلة طويلة من النضال ضد اللامساواة والعمل على توزيع عادل للثروات.