اخر الاخبار

عرفت فلسطين طفلاً. كان معلمنا، الشهيد الشيوعي الذي اغتالته قطعان الحرس القومي، يحدثنا عن شعب، سلب الأشرار وطنه، وشردوه محطماً في بقاع الأرض، ويحثنا على رفض الظلم، الذي يسعى هو ورفاقه للخلاص منه. لم نكن نعرف من هم رفاق معلمنا ولا كيف سيقضون على الظلم، لكن عباراته بقيت حيّة في عقولنا. وحين فضحت هزيمة حزيران، الأوهام التي غمرنا بها “زعماء” الأمة، من قلبها النابض وحتى قدميها الغاطستين في ابار المذلة، الذين أوصوا الجند خيراً بالشجر والمجنّدات، علا صراخنا واشتدت حيرتنا، وكان لكل منا تبريره في خضم فوضى سياسية وفكرية عارمة.

لكني كنت محظوظاً فما طالت حيرتي طويلاً، إذ بعد أشهر معدودات، أبصرت الحقائق في المناشير السرية التي نصحني صديقي بقراءتها، وعرفت أن المشكلة لم تك يوماً صراعاً بين كادحي فلسطين، بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم ولغاتهم وماضيهم، بل نتاجاً لمخططات قتلة، جاءوا من وراء البحار، واستغلوا الفكرة الصهيونية لخلق كيان عنصري يمكن أن يكون مخلباً لهم، في أكثر المناطق ثراءً، وأهمها موقعاً، وأنشطها كفاحاً. وعرفت كيف عمد ذيولهم، من اليمين العربي المتلفع بأردية قومية ودينية “معادية” للإستعمار، ومن اليمين العنصري الصهيوني المتلفع بأساطير توراتية زائفة، إلى تحويل الصراع الطبقي بين كادحي المنطقة وبين الرأسمالية، إلى صراع دموي على أساس قومي ـ ديني.

وأرتني دروس التاريخ غير المزيف، مواقف الجميع في هذه المعركة، فوجدت اليسار فاعلاً على جميع الجبهات، ووجدت أهمها، ساحة كفاحه من أجل تطوير وعي الناس، كي يبصروا الحقيقة ويتجاوزوا التضليل، ويدركوا بأن تحرير فلسطين لا يتحقق بترديد الشعارات، قدر ارتباطه بالتحرر من الاستعمار وقيام دول ديمقراطية مستقلة، تضمن عدالة اجتماعية وتنمية مستدامة، تمكّنها من مواجهة مخلب الإمبريالية واقتلاعه.

ثم عشت التفاصيل، فرأيت كيف أصّر اليسار على تمكين الفلسطينيين أنفسهم من قرارهم السياسي الحر، وعلى تقديم كل الدعم غير المشروط لنضالهم، وكيف عمل على أن تتبوأ قضيتهم، الموقع الأرأس بحملات التضامن الأممي متعددة الأهداف، وكيف شارك في نضالهم، بما فيه المسلح عبر قوات الأنصار أو المتطوعين من الشيوعيين واليساريين في الفصائل الفلسطينية المختلفة، وكم قدم من شهداء في هذا الكفاح. كما تعّرفت على مشروع اليسار للسلام، السلام الحقيقي بين كل سكان فلسطين التاريخية، الذي يضمن لهم جميعاً الحياة في دولة ديمقراطية حرّة، تضمن العدالة والمساواة لجميع مواطنيها، وكيف دعم، وكخطوة على هذا الطريق، وعلى أساس قراءة موضوعية للواقع ولتوازن القوى، حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على أرض وطنه، ولماذا رفض اليسار وما يزال، مشاريع التطبيع والإستسلام، التي تُبقي على كيان التمييز العنصري والإبادة الجماعية. 

وتعلمت من اليسار، بأن الأعداء ليسوا قتلة الأطفال، الحاكمين في تل أبيب وحدهم، بل وعرابيهم الأمبرياليين، في البيت الأبيض و 10 داوننغ ستريت والإليزية وقصر كيجي والبوندستاغ وغيرها، ممن يرقصون معهم اليوم، على أشلاء أطفال غزة. كما تعلمت بأن فلسطين الحرة، لن تكون قبلة أبنائها وحدهم، بل وكل الملايين، وفي طليعتهم اليساريون، الذين يشاركون شعب الجبّارين نضاله، وتحركوا في عواصم الدنيا اليوم، متضامنين معه ومندّدين بقتلة الأطفال وحلفائهم.   

معلمي الشهيد، أنا على يقين من أن حلمك بالخلاص من الظلم، سيزهر حتماً، وستشرق شمس الحرية والعدالة على فلسطين والبشرية جمعاء. 

عرض مقالات: