اخر الاخبار

يُواجه بلدنا أزماتٍ وصعوبات تتعقد مع مرور الوقت، وتُظهر القوى السياسية الماسكة بالحكم عجزاً واضحاً عن تقديم الحلول والمعالجات الجذرية، ليس لمجرد أنها لا تريد ذلك، بل لتشبثها بمنهج فاشل في إدارة الدولة ومؤسساتها. إنه منهج المحاصصة سيّئ الصيت؛ منهج تقاسم السلطة والثروة بين اقلية حاكمة (أولغارشية)، متماهية مع الفساد، تستميت للحفاظ على سلطتها السياسية ومصالحها ونفوذها بأثمانٍ باهظة يدفعها العراقيون على اختلاف انتماءاتهم.

أدى هذا الفشل المتراكم إلى إضعاف مؤسسات الدولة، وتسيّد المصالح الضيقة، واضمحلال الحدود بين السلطات، على حساب نفاذ القانون والدستور، الذي صار يُفسر وفق أهواء سياسية واضحة.

وفي ظل ارتهان قوى متنفذة وحاكمة لأطراف خارجية، دولية وإقليمية، يستمر التدخل الأجنبي في شؤون بلدنا على حساب سيادته واستقلاله وقراره الوطني المستقل.

إن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية المتردية والتمايزات الاجتماعية الحادة السائدة حاليا في العراق، لا تنسجم مع أي حديث عن الاستقرار والتنمية والتقدم.

وتتضح يوما بعد آخر معالمُ التوجهات الاقتصادية والاجتماعية، التي من نتائجها المتوقعة، اتساع الفرز الطبقي والاجتماعي، والنمو المتسارع للعلاقات الرأسمالية، في ظل تطور رأسمالي تابع ومشوّه واقتصاد سوق منفلت، وتكريس هيمنة الأقلية الحاكمة على الحياة الاقتصادية وتحكمها بثروات البلاد، في مقابل أغلبية ساحقة منهكة من ظروف المعيشة البائسة والفقر والبطالة، جراء تداعيات الأزمات وسوء الخدمات الأساسية. ويتضح ذلك بشكل جلي، في الميل الى رفع يد الدولة عن قطاعات أساسية وإطلاق العنان للخصخصة، وإيقاف الدعم عن العديد من المجالات الخدمية والإنتاجية.

وبدلا من الوعود بتحسين حياة الناس، تتكشف مساعي التضييق على الحريات، وحق التعبير عن الآراء والمواقف السياسية والفكرية وغيرها التي نصّ عليها الدستور. كذلك تقييد مجالات عمل منظمات المجتمع المدني. ويجري كل هذا وغيره عبر فرض قوانين تستند الى هيمنة كتل متنفذة في مجلس النواب، والى إجراءات وتوجهات تصادر الحياة الديمقراطية، تفرضها جهات متعددة، حكومية وغير حكومية.

وأمام الفشل الواضح في معالجة الأزمات المتتالية، وتفاقم معاناة المواطنين، واتساع الهوة بين المتنفذين وعموم أبناء الشعب، تستمر حالة انعدام الثقة، الأمر الذي يعظم مظاهر الاستياء والسخط والتذمر، والتعبير عن ذلك بأساليب وطرق عدة، أبرزها التظاهر والاحتجاجات المطلبية والجماهيرية التي تشهدها جميع المدن العراقية دون استثناء.

وفي الشهر الماضي، صادق مجلس النواب على قانون العطلات الرسمية الذي كانت الحكومة قد تقدمت بمشروعه، دون أن تدرج ثورة 14 تموز 1958 المجيدة ضمنه، وقد أثار تجاهل هذا اليوم الوطني الكبير، غضبا واستنكارا واسعين في اوساط شعبنا وقواه الوطنية. وكان واضحا، على الرغم من محاولات تبرير هذا الموقف بقتل الملك والعائلة المالكة في اليوم الأول من الثورة او غير ذلك، إن الهدف هو النيل من رمزية الثورة لما حققته من منجزات حقيقية لشعبنا ولعماله وفلاحيه وكادحيه ومختلف فئاته وطبقاته. ويأتي القرار في سياق أشمل للتعتيم عليها في المناهج الدراسية وقطع الأجيال الجديدة عن تاريخ نضال شعبنا وحركته الوطنية التي جاءت ثورة تموز محصلة له. لذا يتوجب استمرار الضغط والعمل بمختلف الاشكال الجماهيرية والقانونية والدستورية لحمل الجهات المتنفذة على العدول عن هذا القرار المجحف واعتبار يوم ١٤ تموز يوما وطنيا، لتظل الثورة مثلا ملهما لتحقيق منجزات حقيقية لشعبنا.

إن تردي الأوضاع العامة في بلادنا تحفز باستمرار عناصر الرفض والاحتجاج والمعارضة، والتي وإن تكاد لا تُذكر في مجلس النواب حاليا بفعل تركيبته الراهنة والتخادم المحاصصاتي فيه، فإنها تبقى ماثلة في المجتمع، تكبر وتتسع وتظل بحاجة الى تعاون وتنسيق ووضوح في المنهج والرؤى والاهداف، وصولا الى بناء اصطفاف واسع، جماهيري وسياسي من مختلف القوى والشخصيات الوطنية، الحريصة على إنقاذ الوطن ودحر منهج منظومة المحاصصة والطائفية والفساد، وفرض إرادة التغيير والسير الى أمام نحو بناء دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.

الأداء الحكومي والتشريعي.. إطفاء حرائق لا معالجات حقيقية!

لقد قدمت الحكومات المتعاقبة، بما تمثله من قوى سياسية مؤتلفة فيها، وعوداً كبيرة بتحسين الأوضاع، ومعالجة المشكلات، وإزالة العقبات امام نهوض البلاد. غير أن تلك الوعود سرعان ما تبخرت بفعل محدودية القرار والإمكانات، التي يفرضها التوازن الهش لتركيبة السلطة، وبفعل قوة دوائر الفساد وتأثير السلاح المنفلت.

وجراء الإصرار على النهج الفاشل والمدمر، تغيب الاستراتيجيات، وتحل محلها سياسة «إطفاء الحرائق»، وما يصاحبها من هدر للأموال والوقت، وضياع فرص حقيقية للتقدم والتنمية الحقيقية المستدامة.

في سياق ذلك، فإن الحكومة الحالية لا تختلف عن الحكومات السابقة من ناحية النهج والإدارة، بسبب أنها تشكلت بذات آليات المحاصصة الطائفية والإثنية.

وبالرغم مما توفر لدى الحكومة من إمكانيات مالية هائلة، بفضل ثبات أسعار النفط عند مستويات جيدة، والأموال المتراكمة في دوائر الدولة والمحافظات من تخصيصات المشاريع غير المنفذة، إلاّ أن ما تحقق بعد مضي أكثر من عام ونصف العام، لا يعكس حجم الإنفاق الكبير، ولا يؤشر تغييرا في السياسات والإجراءات التي دأبت على اتخاذها سابقاتها.

ورغم إعلان حكومة السيد السوداني عن كونها حكومة «خدمات»، فلم يلحظ أي توجه جدي لتطوير الخدمات الأساسية ولاسيما في قطاعات الكهرباء والماء والتعليم والصحة والنقل والسكن. إضافة الى ان عددا من المشاريع السريعة وخاصة التي لها علاقة ببناء المجسرات وتبليط الطرق يحوم حولها تساؤلات لها صلة بآلية التنفيذ المباشر والتكاليف العالية وكفاءة المنجز، وهي وان تخفف قليلا من الاختناقات المرورية في بغداد، فانها لا تعالج أزمة البنية التحتية بالكامل، في حين يجري توظيفها في الصراع السياسي ومراكمة الرصيد الدعائي والانتخابي. وهناك جهات سياسية متعددة توظف أيضا حاجات المواطنين، ولاسيما في التوظيف والتعيين والحصول على منافع الرعاية الاجتماعية، لمصالحها الضيّقة ولكسب ولائهم في اطار ما يُعرف بالزبائنية السياسية، فيما يظل الفساد معوقا كبيرا امام التوظيف السليم للموارد وتقديم الخدمات للمواطنين.  

وبدلا من المضي في الاستثمار بمشاريع منتجة تستقطب الأيادي العاملة المعطلة، وتحقق نقلة نوعية في بنية الاقتصاد العراقي، سلكت الحكومة الطريق السهل، ولكن المكلف على صعيد المستقبل، المتمثل في فتح باب التوظيف في مؤسسات الدولة، محملة موازنة البلد عبئا كبيرا.

لقد أدى التوظيف غير المدروس اقتصادياً، إلى رفع التكاليف الثابتة التي تتكبدها الدولة، فضلا عن كونه يؤدي إلى رفع مستويات التضخم في البلد. كما أن التوظيف الذي حصل، قد لا يمكن تغطية تكاليفه في حال انخفاض أسعار النفط، وهو أمر مرجح ويمكن أن يحدث في أي وقت.

فهل يمكن للحكومة استيعاب آلاف الخريجين سنوياً في مؤسساتها؟ قطعاً لا! وهذا ما أعلنه رئيس الوزراء صراحة في حديثه عبر لقاءات صحفية قبل (6) أشهر بعدم قدرة حكومته على تعيين المزيد.

إن الفشل في تقديم معالجات جذرية ونافعة للبلد، ورسم سياسات منتجة، لا تتحمله الحكومة وحدها، بل جميع السلطات والقوى السياسية المتنفذة التي شكلت الحكومة والداعمة لها والمشاركة فيها.

فمجلس النواب هو الآخر شريك في المسؤولية عما تتخذه الحكومة من إجراءات،، خصوصا أن تركيبة المجلس تعاني من خلل بسبب هيمنة طرف سياسي على قراره بعد استقالة الكتلة الفائزة في الانتخابات.

وأمام التحديات التي تواجه البلاد، فشل مجلس النواب في حل أزمة انتخاب رئيس جديد له، بعد إقالة السيد الحلبوسي بقرار من المحكمة الاتحادية العليا.

وصحيح أن خلو كرسي رئيس البرلمان لا يعطل عمل المجلس قانوناً، إلاّ أن الفشل في انتخاب رئيس جديد له يعكس عمق الأزمة السياسية، وحجم الصراعات والتجاذبات بين كتله، والتأثير السلبي لذلك على عموم دور المجلس في تشريع القوانين ومراقبة أداء السلطة التنفيذية.

ويلاحظ غياب الجانب الرقابي للمجلس، وتاثير ذلك على عمل وإداء مؤسسات الدولة وحالة الفساد المستشري، وبدلا من اللجان الرقابية وعمليات الاستجواب، اكتفى عدد قليل من النواب بتقديم تقارير وتصريحات إعلامية عن شبهات فساد هنا وهناك، انتهى مفعولها من دون إجراءات تذكر.

كذلك شهدت جلسات مجلس النواب اجواء تتنافى بشكل صارخ مع الممارسة الديمقراطية السليمة، ولا تنم عن عمل نيابي حقيقي، فيما كان هناك ضيق وتبرم من وجود وجهات نظر مختلفة، حتى عندما تصدر عن بعض أعضائه.

إن عمل مجلس النواب، اتسم خلال الأشهر الماضية، بالضعف والتشتت والتسويف في الإقدام على تشريعات تصب في مصلحة عامة الشعب، أبرزها قوانين النفط والغاز ومكافحة العنف الأسري، وقانون حرية التعبير والاحتجاج وحق الحصول على المعلومة.. بل أن بعض المراقبين، يصفون الدورة الحالية للمجلس بانها «الأضعف من كل الدورات السابقة من ناحية الأداء». وهذا الأداء البائس للسلطة التشريعية امر ليس بالمستغرب في ظل نظام المحاصصة الطائفية والفساد.

وليس بأفضل حال وضع مجالس المحافظات. فعلى الرغم من انه لم يمض على تشكيلها سوى (6) أشهر، الاّ ان نشاط المجالس بدأ يأخذ منحى بعيدا عن هموم الناس ومتطلباتهم، ما أثار غضب الشارع العراقي في وقت مبكر. فيما لم تنجح بعض مجالس المحافظات حتى الآن في تشكيل حكوماتها المحلية، كما في ديالى وكركوك، إضافة الى الحديث عن شبهات فساد شاب عملها، فيما تفجرت صراعات داخلها ومنها ما حصل في نينوى والبصرة وسواهما.

ان العزوف الكبير الذي لاقته الانتخابات المحلية الماضية مرتبط بالأساس بالصورة النمطية عن تجربة مجالس المحافظات السابقة، التي شابها الفساد والهدر المالي والعجز عن تقديم الخدمات اللازمة والضرورية.

كما ان وجود مجالس المحافظات وحكوماتها المحلية قرب أبناء المدن والقرى والارياف في المحافظات، يجعلها أكثر عرضة لتقييم الأداء والانتقاد بشكل مباشر بالمقارنة مع الحكومة الاتحادية ومجلس النواب.

إن الأداء الحكومي والرقابي بشقيه الاتحادي والمحلي، مترابط من ناحية الأداء والمسؤولية، بحكم أن القوى السياسية الموجودة في الشق التشريعي والرقابي هي ذاتها موجودة في الجانب التنفيذي، وهي - القوى السياسية في السلطة - بالتالي مسؤولة تماما عن أداء تلك المؤسسات.

ان التوافقات المحاصصاتية التي تحكم إدارة الدولة حققت توازناً شكلياً هشاً سرعان ما انهار مع توالي الأزمات وتصاعد الصراع على المكاسب والمغانم. فالائتلاف الأكبر الراعي للحكومة، المتمثل بتحالف «إدارة الدولة»، قد شلّ دوره بعد أزمة انتخاب رئيس البرلمان. وأخذت الصراعات التناحرية بين الأطراف السياسية المكونة له تطفو إلى السطح أكثر فأكثر، ليس داخل تحالف إدارة الدولة فحسب، وانما حتى داخل «الإطار التنسيقي» والكتل السياسية المتنفذة الأخرى.

وفي خضم تلك الصراعات، عاد الحديث مجددا في الفترة الأخيرة عن الانتخابات المبكرة، وهو الموضوع الذي جرى إهماله لفترة، وتبرير ذلك بالقول «لندع الفرصة للحكومة لتكمل برنامجها، وما الحاجة الى الانتخابات المبكرة ووضع البلد آمن ومستقر وتتحقق إنجازات على الأرض».

وعللت تصريحات حكومية عدم تنفيذ هذه الفقرة بشأن الانتخابات المبكرة في البرنامج الحكومي، الملزم بعد إقراره من مجلس النواب، بأن ذلك مرتبط بحل مجلس النواب!

ان إثارة هذا الموضوع الآن من قوى سياسية لها وجود في الحكومة والبرلمان ليس بمعزل عن حالة التجاذب السياسي الدائر بين الأطراف السياسية النافذة، وليس ببعيد عن «إعلان التيار الشيعي الوطني» وإمكانية مشاركته في انتخابات جديدة لمجلس النواب بعد أن كان التيار الصدري قد انسحب من مجلس النواب.

ولا يمكن استبعاد ان يكون طرح الموضوع الآن ذا صلة بالمسعى لقطع الطريق أمام رئيس الوزراء، ووضع العراقيل امام تمكينه من خوض انتخابات تعيده نتائجها الى رئاسة مجلس الوزراء ثانية.

كما ان له صلة بنتائج انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة والتي لم تأت كما يريد ويشتهي البعض في تحقيق الهيمنة المطلقة وليس فقط التمثيل فيها.

ان مصالح مختلف القوى المتنفذة هي ما يدفعها، كما بينت تجارب سابقة، الى التخلي عما تعلنه عندما تقتضي مصالحها أيضا. هذا ما يحكم سلوك هذه القوى؛ فمصالحها فوق كل اعتبار، ولا ضير من تغليف ذلك بالحديث عن مصالح البلد والأمة والمكون والمذهب والدين!

في كل الأحوال، سواء جرت انتخابات مبكرة أم اُجريت في موعدها القانوني، يبقى السؤال بعد كل التجارب الانتخابية السابقة والتي أعادت الى الواجهة ذات القوى بمنهجها المحاصصاتي التخادمي الفاشل: أي انتخابات يحتاجها شعبنا وبلدنا؟ وهنا نحرص على العودة للتأكيد من جديد على الحاجة الى انتخابات تكون احدى روافع التغيير وتتعشق مع سائر الوسائل النضالية الأخرى، وفي مقدمتها الحراك الجماهيري والسياسي لفرض إرادة التغيير. وهذا يتطلب، من بين أمور أخرى، اصلاحا انتخابيا شاملا لضمان عدالة الانتخابات ونزاهتها وصدقيتها، ولتمكين المواطنين من تحقيق خياراتهم بإرادتهم الحرة.

إنّ أية انتخابات قادمة وكي تكون احدى روافع التغيير، لابد ان تسهم في الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وكسر احتكار السلطة والقرار، وأن تشكل مساهمة فعلية في تغيير موازين القوى لصالح مشروع بديل آخر، يقطع الطريق على حالة الشلل الراهنة ويحول دون الانزلاق الى الأسوأ، ويفتح آفاقا جديدة واعدة لبلدنا. وفي هذا السياق بات ملحا إعادة النظر بالمنظومة الانتخابية وتنفيذ القوانين ذات العلاقة،وبما يضمن احترام إرادة الناخبين وخياراتهم، بعيدا عن السلاح والمال السياسي.

إننا نجدد موقفنا الثابت في رفض نهج المحاصصة واعتماده كمبدأ في عملية تشكيل الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، وهو نهج أثبت فشله المؤكد على مر السنوات العشرين الماضية، وان التشبث به لا يعني الا مزيدا من الأزمات. ونسعى مع القوى المدنية والديمقراطية والحركات والشخصيات، والجماهير المتطلعة الى التغيير، الى دحر منظومة المحاصصة والفساد ونهجها والعمل على بناء دولة مدنية ديمقراطية يحترم فيها الانسان وتصان حقوقه ، وتوفر له سبل العيش الكريم.

سياسات اقتصادية ومالية ثبت فشلها

رغم ما اُعلن ويُعلن عن التوجه لتنويع الاقتصاد العراقي، فإن الواقع الفعلي يؤشر بأنه ما زال اقتصادا ريعيا، وحيد الجانب يعاني من اختلالات هيكليات وبنيوية كبيرة، ويعتمد بشكل أساس على إيرادات النفط الخام المصدر.

فهذه الواردات هي ما يُعتمد عليها في تكوين الناتج المحلي (بنسبة 68 في المائة) وتمويل الموازنات العامة (في العادة بنسب  تزيد على 95 في المائة) وفي توفير الأرصدة بالعملات الأجنبية والاحتياطي النقدي.

وبهذا فإنه اقتصاد هش ومكشوف للمتغيرات، ولاسيما ما يخص أسعار النفط على الصعيد العالمي، فيما تظل أسعار المواد المستوردة، وهي كثيرة وعديدة، رهينة بأسعارها العالمية وحالات التضخم والمتغيرات الدولية المختلفة، وقد قُدِّر إجمالي إستيرادات العراق بـ (70) مليار دولار عام  2023، ما يعادل (80) في المائة من إيرادات العراق النفطية لعام 2023 البالغة (97,5 ) مليار دولار.

وسعت الحكومة إلى التأكيد بأن العراق بلد آمن ومستقر في مسعى لجذب الاستثمارات، والقول بأن العراق بيئة صالحة للاستثمار. ولكن كثرة من الأحداث والتطورات لم تسند هذا التوجه، ولاسيما لجهة ما يتعرض له المستثمرون من مضايقات وابتزازات وصعوبات أمنية.

وهذا ما عكسته بشكل جلي جولات التراخيص الخامسة والسادسة التي أعلنتها وزارة النفط في أيام 11-13 آذار 2024 وتضمنت عرض 29 حقلا ورقعا استكشافية نفطية وغازية. وبغض النظر عن التساؤلات بشأن جدوى هذه الجولات الجديدة، فلم تتم إحالة الا (13) مشروعا، ويشكك المتخصصون بمدى قدرة الشركات المُحالة اليها تلك المشاريع على تنفيذها.

كما لم تتمكن الحكومة ووزارة المالية والبنك المركزي من السيطرة على سعر صرف الدينار مقابل الدولار الأمريكي والعودة به إلى السعر الذي اتخذته الحكومة وهو (1320) دينارا للدولار الواحد، وما زالت الفجوة بين السعر المقرر والسعر الموازي كبيرة.. وقاد هذا الفرق في السعر إلى تشجيع المضاربة وإلى حصول المصارف وشركات الصيرفة المسجلة في نافذة العملة على أرباح فائقة. كما ساهم تذبذب سعر صرف الدولار في سوق العملة في إرباك التعاملات التجارية والحركة الاقتصادية عموما. كما لم يؤد خفض السعر الرسمي لصرف الدولار إلى الحيلولة دور ارتفاع الأسعار، ولا سيما للكثير من المواد الغذائية والسلع الأساسية، ما ضاعف من معاناة المواطنين جراء إنخفاض القيمة الشرائية للدخول والرواتب. فكان أكثر المتضررين هم من يتسلمون رواتب من الدولة، ويقرب عددهم مع أسرهم من (20) مليون مواطن.

وما زالت نافذة بيع العملة في البنك المركزي العراقي تثير التساؤلات والشكوك عن مصير المبالغ التي تباع فيها، وهي لا تعادل كمية السلع المستوردة التي يفترض بأن القسم الأكبر من المبالغ المباعة تذهب لسد أثمانها. ويُشار الى حالات التهريب المرافقة لذلك وما تشكله من هدر للمال العام.

وتكشف جداول الموازنة لسنة 2024 التي تقدمت بها الحكومة بشكل واضح مواطن الاختلال الشديد في بنية التخصيصات والأوليات التي لا تنسجم مع متطلبات تحقيق تنمية حقيقية للاقتصاد العراقي وتنويع قاعدته الإنتاجية، وتثير تساؤلات جدية عن محاذير، بل مخاطر، استمرار هذا النهج في السياسة الاقتصادية والمالية وإمكانية استدامته. وأيضا وكما في سنوات سابقة قدمت جداول الموازنة من دون حسابات ختامية في مخالفة سافرة لقرار المحكمة الاتحادية الذي اتخذته بعد الدعوى التي تقدم بها حزبنا الشيوعي.

فمن أبرز ما يميز هذه الجداول التضخم في أرقامها، إذ ارتفع إجمالي النفقات إلى حوالي (212) ترليون دينار، بزيادة قدرها أكثر من (13) ترليون دينار عن تخصيصات عام 2023 وألتي كأنت أكبر موازنة شهدها تاريخ العراق. وارتفعت تخصيصات تعويضات الموظفين والعاملين في الدولة إلى (63) ترليون دينار، وهي تمثل حوالي (30) في المائة من إجمالي النفقات و(40) في المائة من النفقات التشغيلية.

ويلاحظ أيضا الزيادة في تخصيصات الرعاية الاجتماعية والإعانات والمبالغ المخصصة لتغطية أثمان شراء المحاصيل الزراعية من الفلاحين، إلا أن تخصيصات البطاقة التموينية ظلت ثابتة بحوالي (1.7) ترليون دينار لعموم العراق.

ومقابل هذا الجانب التوزيعي ذي البعد الاجتماعي تكشف الجداول الاستمرار في زيادة تخصيصات الأمن والدفاع التي ارتفعت نسبتها من (15) إلى (16) في المائة من اجمالي النفقات، وهي تزيد عن تخصيصات قطاعات الصحة والتربية والتعليم والصناعة والزراعة مجتمعة، فيما ظلت تخصيصات الصناعة والزراعة لا تزيد عن (1) في المائة لكل من القطاعين. أما قطاع التشييد والإسكان الذي يحتل أهمية كبيرة لحدة أزمة السكن، لاسيما بالنسبة لذوي الدخل المحدود وعديمي الدخل، الذي لا يجد القطاع الخاص مصلحة وحافزا ربحيا للإستثمار في بناء المساكن لهذه الشرائح، لم تزد نسبة التخصيصات له عن (3) في المائة.  

عكست هذه الموازنة لجوء الحكومات المتعاقبة بصورة متزايدة للاقتراض الداخلي والخارجي  لتمويل الموازنات المتضخمة. فقد ارتفع العجز إلى مستوى قياسي غير مسبوق بلغ ما يقرب من (64) ترليون دينار، وذلك بعد أن تم تعديل سعر بيع برميل النفط من (70) دولارا في موازنة 2023 إلى (80) دولارا للبرميل الواحد في إجراء غير مدروس وفّر (17) تريليون دينار لتخفيض العجز المخطط، وإلاّ لكان قد وصل إلى (81) تريليون دينار. وارتباطا بهذه الزيادة، أصبحت خدمة الدين (16.7) ترليون دينار، ما يمثل (11) في المائة من الموازنة التشغيلية مقابل (10) في المائة في عام 2023.

ان الاستمرار في هذا المنحى لأمر خطر وذو مزالق عدة، ولاسيما اذا ما عرفنا بأن نسبة الدين الى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 48,2 في المائة، ويمكن ان تصل في سنة 2029 الى (81) في المائة (تقديرات مختلفة)، ويبدو أن هناك اعتقادا خاطئا يقلل من ضرر المديونية الداخلية.

وتظهر جداول موازنة 2024، أن مقدار النفقات الاستثمارية قد انخفض بنسبة واحد بالمائة ليبلغ (55) تريليون دينار، وتشكل (26) في المائة من مجموع الموازنة. وهي ذات النسبة في الموازنات السابقة، ما يعني أن نسبة متنافصة من عوائد النفط، المصدر الناضب، تذهب للاستثمار فيما ينفق معظمة لأغراض تشغيلية واستهلاكية على حساب التنمية وحقوق الأجيال القادمة في هذه الثروة الطبيعية.

ويعكس جانب الايرادات في الموازنة تطورا يبدو ايجابيا لأول وهلة، إذ انخفضت نسبة العوائد النفطية المخمنة بـ (120.5) ترليون دينار من إجمالي الإيرادات التي تقدر بما يقرب (148) ترليون دينار، إلى (81) في المائة، ولكن هذه الزيادة في الايرادات «غير النفطية» تعود إلى حد كبير إلى زيادة سعر بيع برميل النفط المصدر الى الشركات النفطية المحلية (وهو ما احتجت عليه هذه الشركات)، وكذلك تحويل كافة مبالغ جباية أجور الكهرباء مباشرة الى الخزينة العامة للدولة، فضلاً عن زيادة إيرادات ناتجة عن بيع مشتقات نفطية أخرى. فهذه الزيادات لم تأت نتيجة قيام نشاطات اقتصادية إنتاجية وخدمية جديدة. وهذه الزيادة ستنعكس بهذا الشكل او ذاك على المواطن الذي ستشركه الحكومة في سداد جانب من العجز الذي هو غير مسؤول عنه. فهذه الموارد  قد يعتبرها البعض تنويعا في مصادر تمويل الموازنة العامة ولكنها لا تمثل تنويعا اقتصاديا.

وفي الجانب الاجتماعي للإنفاق الحكومي، فإضافة إلى التوظيف غير المدروس، جرى التوسع كثيرا في تقديم الرعاية الاجتماعية، رغم ما يعلن بين فترة وأخرى عن آلاف المتجاوزين عليها، حيث يزيد الرقم الكلي للمستفيدين منها على (8) ملايين مواطن. ويتوجب القول بأن طريقة الحصول على الرعاية الاجتماعية يُثار بشأنها أيضا الكثير من الشكوك، إضافة الى التوظيف السياسي والانتخابي لها.

تداعيات وظواهر تهدد النسيج الاجتماعي

ان التداعيات الاجتماعية كبيرة في بلادنا جراء عدم التعافي في الاقتصاد العراقي، وحالات عدم الاستقرار واستشراء الفساد في مختلف مؤسسات الدولة، وضعف هيبة الدولة وعدم قدرتها على إنفاذ القانون على الجميع، حيث لا عدالة في توزيع الثروات، وفي الحصول على الفرص المتكافئة في العمل وإسناد الوظيفة العامة، وصعوبات المعيشة وارتفاع تكاليفها.

وتشير المعطيات الى تعمق حالة التفاوت والفرز الطبقي والاجتماعي وارتفاع معدلات البطالة، حيث وصلت في بداية عام 2024 الى (16.5) في المائة، فيما تجاوزت نسبة الفقر (22) في المائة (أي عشرة ملايين مواطن). وهناك ما يقرب من (6) ملايين يتيم ومليوني أرملة، وأكثر من (4) ملايين شخص يعيشون في العشوائيات.

ويلاحظ الارتفاع المتصاعد للعنف الأسري وحالات الطلاق والانتحار. يُضاف الى ذلك، الانتشار السريع للمخدرات وارتفاع اعداد المستهلكين لها، رغم الإجراءات التي تقوم بها السلطات المعنية. اذ تجاوزت كمية المواد المخدرة التي تم ضبطها خلال النصف الأول من هذا العام، الطن ونصف الطن، ليتجاوز حجم المخدرات المصادرة خلال العامين الماضيين خمسة أطنان، ولتبلغ الأحكام القضائية الصادرة بحق مدانين خلالهما عشرة إلى أربعة عشر ضعفاً مقارنة بعامي 2022 و2021.

كما تم تفكيك (20) شبكة دولية و(204) محليات (لتجارة المخدرات). ولتحقيق نجاحات في مكافحة هذه الآفة الخطرة والمدمرة هناك مطالبات بفضح هذه الشبكات وداعميها، وقطع دابر الفساد الذي يغذيها، ووضع برامج للتوعية، وخاصة بين الشباب للحد من ضحاياها، ورفع درجات الحيطة خاصة في المدارس والجامعات، الأكثر استهدافاً في الآونة الأخيرة.

ان مجمل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية يؤشر ضرورة مراجعة جذرية للسياسة الاقتصادية والمالية، والعمل على وضع الخطط والمشاريع لتنويع الاقتصاد، وتنمية القطاعات المنتجة وحماية المنتج الوطني، والتصدي الفعلي للفساد، والتقليل التدريجي للاعتماد على النفط، والحؤول دون القاء تبعات ذلك على عاتق المواطنين، في حين يتوجب إصلاح النظام الضريبي وتحسين جباية موارد الدولة. 

كما تتأكد سنة بعد أخرى ضرورة مراجعة شاملة لطرق وآليات إعداد الموازنة وهيكلتها وإعادة توزيع سليم للموارد، مع السعي الجاد للتخلص من الفساد والبيروقراطية ونسب التنفيذ الواطئة.

معاناة الشباب والطلبة.. تنتظر الحلول! 

يواجه الشباب مشاكل جمة، فهم الشريحة الاجتماعية الأكثر عدداً، وكذلك الأكثر تضرراً في البلد، بسبب السياسات غير المدروسة التي سببت هذه الأوضاع المأساوية. وتتعدد مشاكل الشباب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، فان فرصة الحصول على فرصة عمل امر ليس بالسهل، وهناك (مليون وستمائة الف) عاطل مسجل في وزارة العمل، غالبيتهم من الشباب، فيما تفتك البطالة بالآخرين، وتقود الأوضاع المأساوية عدد كبير منهم الى المخدرات، الهجرة، اللجوء الى الجماعات المسلحة، ومن يجد له فرصة عمل، فأنها لن تكون مناسبة لمؤهلاته وتطلعاته.

والأوضاع في الجامعات في تراجع متواصل حيث يتواصل اتخاذ القرارات والإجراءات التي هي ليس في صالح المسيرة التعليمية، ومنها قرار منع النشاط المهني للاتحادات الطلابية، وكبت الحريات، وتقادم مناهج التعليم، وفرض أيديولوجية معينة، فضلاً عن محاولات مستمرة لعسكرة الجو الجامعي وهذا غيض من فيض توجهات وقرارات فرضتها وزارة التعليم العالي على الحياة الطلابية والأكاديمية. كما يلاحظ ان التخصص لم يعد مقياسا للحصول على العمل فالعديد من خريجي الجامعات يعملون بعيدا عن تخصصاتهم.

وشهد المجال الرياضي الذي هو المتنفس الكبير لغالبية الشباب تدخلات غير مسؤولة من قبل الأحزاب الطائفية وكبار المتنفذين، اذ ان الملاعب لأنواع الرياضة عدا كرة القدم غير مؤهلة، وجرى بشكل عمد الاتفاق مع تجار وفاسدين على تحويل المراكز الشبابية الى مشاريع استثمارية، فضلاً عن عدم الرعاية والاهتمام الكافيين بالرياضيين الأبطال والمواهب الرياضية.

وبسبب من السياسات الحكومية، فأن نصيب الشباب التهميش والإهمال وتسويف المطالب، وإذ ما أرادوا التعبير عن مطالبهم، فأنهم يواجهون التعنت والعسف والعنف، فيما يتم التمييز بينهم.

ان تحسين ظروف الشباب والطلبة يتطلب:

  • تنفيذ قانون العمل والضمان والتقاعد، وإجبار المؤسسات التجارية والشركات على تسجيل العاملين فيها وفق عقود مرضية. ويتوجب على الوزارات والمؤسسات المعنية، ومنها وزارتا التخطيط والعمل والشؤون الاجتماعية، النهوض بمسؤولياتها في هذا الشأن.

  • إعطاء الصلاحيات الكاملة لمجلس الخدمة الاتحادي، وحصر توزيع الوظائف العامة، بهذه المؤسسة وفق المعايير بعيداً عن سيطرة الأحزاب والجهات المتنفذة ووزرائهم، وان يشمل ذلك حتى العقود.

  • الغاء جميع قرارات الاستثمار التي صدرت من الوزارة والمحافظين للمراكز الشبابية، وإعادة العمل بها بالشراكة مع المنظمات والاتحادات الشبابية وتطويرها لتكون أماكن ريادية لنشاط الشباب وإبداعهم.

  • الشفافية في ما يخص المجلس الأعلى للشباب، خصوصاً في المبادرات والقرارات التي اتخذها طيلة الفترة الماضية، والحرص على منع تسييس هذا الملف واتخاذه لصالح الأحزاب والشخصيات المتنفذة.

  • السماح للمنظمات الطلابية لممارسة دورها المهني الطلابي في الجامعات والمدارس، والعمل على تشريع قانونها الذي يتيح لها تمثيل الطلبة بصورة افضل.

  • إعادة تشريع قانون المنحة الطلابية، ليشمل اكبر عدد ممكن، وتطوير مواده بحيث يتحول الى قانون رعاية لطلبة ومواهبهم العلمية.

  • الكف عن محاولات عسكرة المجتمع الجامعي، وعدم تعيين القيادات الجامعية بواسطة المحاصصة، ودعم البحث العلمي وتطويره.

  • احتضان الطاقة الرياضية في مدارس رياضية ودعمهم بحيث يجري تاهيلهم ليكونوا ابطالاً في مختلف الرياضات.

  • الكف عن استخدام الرياضة العراقية، كوسيلة للفساد وفسح المجال امام الرياضيين والمواهب والمختصين في إدارة شؤون الرياضة.

واقع النساء والأطفال.. مشاكل وتحديات

رغم مشاركة نساء العراق بقوة أسوة بالفئات الاجتماعية الأخرى في الاحتجاجات الجماهيرية في الفترة 2011-2024 المطالبة بتوفير أدنى من الحقوق وبناء دولة مدنية تحترم قيم الديمقراطية والمساواة وعدم التمييز التي كفلها الدستور العراقي، وتعرضت الناشطات كما الآخرين إلى التنكيل والعنف والاختطاف والترهيب وحتى القتل العمد، لكن بقي الحال كما هو عليه بل أنه صار أسوأ من ذي قبل في ما يخص حقوق النساء والأطفال وعلى وجه الخصوص شريحة الأرامل والمطلقات والعاملات والفلاحات والعاطلات عن العمل. وتواصل القوى المتنفذة تكريس مفاهيم بعيدة عن احترام حقوق المرأة ومكانتها الاجتماعية.

فعلى الرغم من كل ما تحقق على صعيد حقوق المرأة، مثلاً «قانون العمل» و»قانون الناجيات الإيزيديات»، إلاّ ان دور المرأة لا يزال مغيباً. فقد غابت التشريعات اللازمة لحفظ حقوقها وكرامتها، ولم تحصل على كامل حقوقها في المناصب التنفيذية المهمة وتبين إحصائية حكومية ان نسبة النساء العاملات في المناصب الإدارية في العراق ما زالت لا تتعدى (22) في المائة، وبقي التهميش واضحاً للنساء مجتمعياً، في وقت تؤكد المسوحات الإحصائية لوزارة التخطيط لعام 2022-2023 ان نسبة النساء تبلغ (49.5) في المائة من مجموع السكان، وتبلغ نسبة الشابات (24.4) في المائة.. كما تشكل نسبة النساء في المناطق الحضرية (69.9) في المائة اما في المناطق الريفية تشكل نسبة (30.1) في المائة.

وتشير المعطيات الى عدم المساواة في الأجور في ميادين العمل بين النساء والرجال، فيما لم تكن الفرص متكافئة أمامهن للحصول على وظائف وأصبحت حكراً على الرجال، فيما تستمر معاناة المرأة الريفية.

ومع ان العراق قد صادق بأوقات مختلفة على العديد من الاتفاقيات الدولية التي تضمن المساواة للمرأة في العمل والأجور وحماية حقوقها وحقوق الطفل، لكن هذه الاتفاقيات لم تطبق ولو جزئياً.

ولا تزال هناك محاولات عدة لتعديل قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959 لغرض الانقضاض على الحقوق المدنية التي حصلت عليها الحركة النسوية المدنية. فيما لم تُفعّل حتى الآن الاتفاقات والقرارات الدولية الخاصة بالنساء ومنها قرار مجلس الأمن المرقم (1325)، حول المرأة والسلام والأمن، الذي صادقت عليه الحكومة العراقية وشكلت لجنة للعمل على تنفيذه.

ووفق ما جاءت به المسوحات الإحصائية لوزارة التخطيط لعام 2022-2023، فان هناك نسباً عالية وفي تصاعد للزواج المبكر، وأيضا استمرار حالات ختان الاناث وجرائم القتل تحت ذريعة غسل العار وحالات زواج « النهوة». 

وتظهر نتائج المسوحات الاحصائية أن نسبة عالية من النساء لا تحصل على تعليم كاف، حيث تبيّن آخر احصائية لوزارة التخطيط لعام 2022-2023 ان نسبة (89) في المائة فقط من الفئة العمرية (5-11) سنة، التحقن بالتعليم الابتدائي. في حين ان نسبة (58) في المائة فقط من الفئة العمرية (12-14) سنة، التحقن بالتعليم الاعدادي. ونجد ان هناك تدنيا واضحا وكبيرا في نسبة الفتيات من الفئة العمرية (15-17) سنة اللاتي التحقن بالتعليم الثانوي وبلغت (33.2) في المائة فقط.

ومن جانب آخر، فإن نسبة البطالة بين النساء بلغت (62.1) في المائة عام 2021 وأن نسبة النساء اللواتي يعملن حاليا ما زالت منخفضة جدا حيث بلغت (9.2) في المائة، وتزداد النسبة في إقليم كردستان الى (14) في المائة. كما كشف مسح القوى العاملة في العراق لسنة 2021 أن نسبة البطالة بين الشباب للفئة العمرية بين (15) إلى (29) سنة بلغت (22.6) في المائة حيث شكلت فيها الإناث نسبة (61.1) في المائة. وأظهرت هذه الإحصائية أيضا أن نسبة معدلات مشاركة الشباب في القوى العاملة بلغت (36.1) في المائة. وشكلت الشابات فيها نسبة (8.8) في المائة فقط.

وبشان العنف ضد المرأة تكشف المسوحات الإحصائية لوزارة التخطيط لعام 2022-2023 ان نسبة النساء اللاتي يتعرضن بالعموم لكل اشكال العنف بلغت (29) في المائة وهي نسبة ليست بقليلة. كذلك يمارس العنف وعلى نطاق واسع ضد الأطفال، في الأسرة والمدرسة. وبينت المسوحات الإحصائية كذلك أن نسب الأسر التي ترأسها نساء تستقر عند مستوى (10.7) في المائة على مدى عقد كامل. وجاءت احصائية رئاسة المرأة للأسرة كالآتي في الريف (5.9) في المائة، وفي الحضر (12.4) في المائة، وتبين هذه النسب أن الأسر التي ترأسها نساء تزداد في المناطق الحضرية على ما هو عليه الحال في المناطق الريفية.

مضايقات

إن منظمات المجتمع المدني النسوية ومن خلال نشاطها على مدار العقدين قامت بالترويج لبعض المفاهيم الحقوقية للنساء وقيم الديمقراطية والمساواة في الحقوق وعدم التمييز والتوعية بأهمية العمل على ترسيخها بما يتسق مع السياق المجتمعي العراقي. لكن وبعد فترة وجيزة، بدأت تتعرض هذه المنظمات والعاملات فيها الى هجمات متتالية وعمليات تحريض مستمرة وخطاب كراهية يتصدر المنصات المختلفة بين الحين والآخر.

إن جهات متنفذة في منظومة المحاصصة استخدمت كل الوسائل لتسقيط المنظمات المدافعة عن حقوق المرأة والطفل والتحريض عليها، بما في ذلك المنصات السياسية والإعلامية لمنظومة المحاصصة والسلاح المنفلت.

واكد اجتماع اللجنة المركزية للحزب على تنفيذ الاستراتيجيات والخطط التي تساهم في تمكين المرأة من القيام بدورها في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي مراكز صنع القرار على مستوى السلطات الثلاث والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية. مع الاهتمام الخاص بتأمين متطلبات الارتقاء بواقع المرأة الريفية اجتماعياً وثقافياً، مما يؤهلها للمشاركة في الحياة العامة داخل محيطها وعلى صعيد المجتمع. ويدعو الى معالجة آثار التخلف الاجتماعي المدمرة والناجمة عن التقاليد الاجتماعية البالية التي كرستها سياسات النظام المباد وممارساته، ومن بعده الاحتلال والارهاب وانفلات السلاح والطائفية السياسية. الى جانب محاربة التمييز والعنف ضد المرأة بجميع اشكالهما، وتثبيت ذلك في نصوص قانونية وتشريعات تضمن تنفيذها.

وجدد الاجتماع دعم الحزب للحركة النسوية المدنية في العراق ومنظماتها في مطالبتها الحكومة العراقية والبرلمان العراقي بتحسين وضع حقوق المرأة بما ينسجم مع التزاماتهما بموجب الدستور العراقي والتشريعات والاتفاقيات الدولية التي التزم بها العراق وصادق عليها كجزء من المنظومة الدولية، فضلاً عن البرنامج الحكومي الذي التزمت من خلاله الحكومة الحالية بوضع استراتيجية لمناهضة العنف ضد المرأة ومنحها الحق الكامل في ممارسة الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبتشريع قانون مناهضة العنف الأسري والقضاء على جميع الممارسات الضارة من قبيل الزواج المبكر والزواج القسري والختان.

إن المرأة في العراق وفقا لكل المؤشرات تعيش أوضاعاً مأساوية لا يمكن معالجتها ما لم تتكاتف الجهود الوطنية لجميع القوى والأحزاب المدنية والديمقراطية وكل القوى الساعية إلى التغيير.

أوضاع العمال والشغيلة

حدثت تطورات هامة في بلدنا على مدى سنوات مضت كان لها تداعياتها على الطبقة العاملة، من حيث ظروفها المعيشية وحقوقها الديمقراطية ودور حركتها النقابية ومدى قدرتها على الدفاع عن القضايا الوطنية الكبرى، ومنها قضية الطبقة العاملة العراقية التي تعرضت وتتعرض لإجراءات ومواقف معادية لحقوقها ومكتسباتها، والى شق وتفتيت وحدة الطبقة العاملة ما بين عمال يعملون في القطاع العام وعمال يعملون في القطاع الخاص وعمال في القطاع غير المنظم، وإيجاد قوانين عمل منفصلة يخضع لها العمال في كلا الموقعين.

وجراء سياسة الخصخصة في القطاع العام وتوقف المئات من المعامل والمصانع فقد الالاف من القوى العاملة فرص العمل، ما شكل هدرا كبيرا للايدي العاملة الفنية والمهنية الكفؤة، فيما يشكل تراجع الأنشطة الانتاجية المولدة لفرص العمل، ومحدودية دور القطاع الخاص دوراً سلبياً في تشغيل القوى العاملة. والعاملون في هذه القطاعات عادة محرومون من مشاريع الضمان الاجتماعي التابعة للدولة، فيما أوضاعهم الاقتصادية لا تسمح لهم بضمان انفسهم على نفقتهم الخاصة.

ومعروف ان التشريعات العمالية (قانون العمل، قانون الضمان والتقاعد، قانون الحقوق والحريات النقابية، الصحة والسلامة المهنية) وغيرها تشكل عاملا مهما واساسيا في ضمان حقوق ومصالح عمال بلادنا، وأهمية إنفاذها بشكل واقعي وفاعل، إلا ان هناك العديد من المعوقات التي تمارسها بعض المؤسسات الحكومية وأصحاب العمل تعيق منح العاملين هذه الحقوق وضمان مصالحها. وان مجمل الأوضاع والسياسات الاقتصادية وعدم التوجه الجدي لتفعيل القطاعات المنتجة، وإعادة الحياة الى المعامل والمصانع العائدة للقطاع العام قد اسهم في زيادة معدل البطالة والتي بلغت حسب آخر مسح للقوى العاملة في العراق لعام 2021 أجرته منظمة العمل الدولية (16.5) في المائة، والذي يمثل القوى العاملة العاطلة عن العمل، أي ان هناك شخصاً عاطلاً لكل خمسة أشخاص في قوة العمل.

ومن جانب اخر يقدر عدد العاملين في القطاع غير المنظم باكثر من خمسة ملايين عاملة وعامل، وهو شكل من أشكال التكيف مع اقتصاد يعجز عن توفير فرص العمل اللائق وتامين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعاملين.

فيما تعد ظاهرة عمالة الأطفال من الظواهر الخطرة التي يجب الوقوف على أسبابها والعمل على اتخاذ الوسائل الكفيلة للحد منها ومعالجتها.

ونشير الى ان وزارة العمل والشؤون الاجتماعية قد ذكرت وجود ما يقارب المليون عامل اجنبي يعمل معظمهم في المطاعم والفنادق وشركات التنظيف، والمستشفيات. ورغم ان العديد منهم يأتون عبر شركات التشغيل إلا ان أعدادا أخرى لا تستطيع الحصول على اوراق رسمية للعمل ما يضطرهم الى البقاء معرضين أنفسهم لخطر الابعاد في اية لحظة. ويتوجب معالجة أوضاع العمالة الأجنبية بما يتناسب والحاجة الفعلية والفنية لخبرتهم وعدم تعريضهم للاستغلال والتعسف وضمان قانونية وشرعية تواجدهم في العراق.

إن أوضاع الطبقة العاملة وعموم الكادحين يتطلب ان تبادر الحكومة الى إيجاد فرص عمل حقيقية،. من ذلك إعادة تشغيل الشركات العامة والمصانع والمعامل وتحديث وسائل انتاجها، ورفع إمكانات وقدرات الشغيلة وتحسين مستواهم المعيشي، وضمان إنفاذ قانوني العمل والضمان الاجتماعي وإصدار التعليمات والقيام بالإجراءات التي تساعد على التنفيذ ومن ذلك زيادة عديد وتطوير جهاز التفتيش. كما بات ملحا تشريع قانون جديد للتنظيم النقابي وإلغاء جميع القوانين والتعليمات الحائرة التي تقيد العمل النقابي في القطاعين العام والخاص، وبما يضمن عدم التدخل في الشأن النقابي والتضييق على الحركة النقابية، فيما هناك حاجة ملحة الى توسيع عمل محاكم العمل بما يساعدها على الإسراع في حسم مشاكل العمل والانتهاكات القانونية التي يتعرض لها العمال. كذلك جعل الرسوم المالية المترتبة على العمال رمزية.

الواقع الزراعي – الفلاحي

كحال القطاعات الإنتاجية الأخرى، لم يحظ القطاع الزراعي بالاهتمام المطلوب، وبما يتناسب مع أهمية هذا القطاع في توفير عناصر السلة الغذائية للمواطنين والإسهام في تحقيق الأمن الغذائي، والخفض التدريجي للكميات المستوردة من المواد الغذائية وفقا للرزنامة الزراعية، وتوفير عملات صعبة للوطن، وإيجاد فرص عمل في الريف العراقي الذي لم تتوفر فيه مستلزمات العيش الكريم، ما يضطر سكنته والفلاحون والمزارعون باستمرار الى الهجرة الى مناطق أخرى بحثا عن فرص العمل والخدمات، واشتد الحال مؤخرا مع تفاقم أزمة المياه وقلة الدعم الحكومي والتوقف عن توفير مستلزمات عدة للزراعة، وإغراق السوق بالمنتج الأجنبي المستورد وعدم توفير الحماية للمنتج الوطني.

ولا أدل على ضعف هذا الاهتمام من المبالغ المتواضعة التي تخصص للقطاع الزراعي (واحد في المائة من الموازنة الاعتيادية)، وأيضا ما يخصص لقطاع المياه في الموازنات السنوية.

ان المشكلة الكبرى التي تواجه البلد الان، والقطاع الزراعي خصوصا (يستهلك ما يقرب من (80) في المائة من الإيرادات المائية) تتمثل في شح المياه وقلة الإيرادات الواردة الى نهري دجلة والفرات، وهي دون الحاجة الفعلية، ولا تمثل حصة عادلة للعراق في النهرين، وهذا ناتج أساسا عن مواقف تركيا وايران وعدم مراعاتهما الحاجة الفعلية للعراق، بالمقابل لا يوجد موقف حكومي واضح وصريح ومطالب وفق إجراءات محددة لتغيير هذا الحال وانتزاع حقوق العراق المشروعة، وربط اية علاقات اقتصادية وتنموية مع تركيا وايران بحل مشكلة هذه الملف المصيري للعراق.

وقاد هذا النقص الكبير في المياه الى تقليص المساحات الزراعية، وتحجيم زراعة بعض المحاصيل مثل الشلب والذرة، فيما يستمر التدهور في الأراضي الزراعية وضعف خصوبتها وتصحر وتملح مساحات واسعة منها، وكذلك التدهور في أعداد الثروة الحيوانية والسمكية على نحو غير مسبوق، وساهم ذلك في ارتفاع أسعار اللحوم في الأسواق.

ومن اللافت، هذا التوجه للاستيلاء على الأراضي الزراعية تحت عناوين مختلفة، وبالذات في البوادي الرعوية والتجاوزات الفظة على القوانين السارية ومنها قانون الري رقم (3) لسنة 2002، وسط تسهيلات حكومية مقدمة وأحيانا تحت عنوان «الاستثمار».

ولا بد من الإشارة الى التخلف العام في استخدام التكنولوجيا الحديثة في الحراثة وتسوية الأراضي ومختلف العمليات الزراعية، يصاحب ذلك نقص حاد في البنى التحتية في الريف والذي يعاني من ضعف تقديم الخدمات العامة فيه.

كل هذا وغيره، ومن نتائج السياسة العامة الاقتصادية للدولة، أنْ اتسعت ظاهرة الفرز الطبقي والاجتماعي في الريف الذي يشهد نموا متصاعدا للعلاقات الراسمالية فيه.

 ان أي توجه جاد لمعافاة هذا القطاع والنهوض به يتطلب أمورا عدة لعل في مقدمتها أهمية وضرورة معالجة قلة التخصيصات للقطاع الزراعي والمائي في الموازنة العامة وعدم تناسبها مع أهمية هذا القطاع، وتامين حصة عادلة للعراق في مياه نهري دجلة والفرات، واستخدام مختلف الطرق السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لتامين حقوق العراق. وان تعمل الحكومة على انفاذ قانون حماية المنتج الوطني، والتشديد على استخدام الرزنامة الزراعية وضبط الحدود وانفاذ قانون المراعي الساري المفعول رقم (3) لسنة 2002. وكذلك وضع نظام دعم للمدخلات والمخرجات يبدأ من صغار الفلاحين (ذوي الحيازة الصغيرة) خاصة وهم يشكلون نسبة كبيرة من العاملين بالنشاط الزراعي، وان يكون تنازليا باتجاه الاستثمارات الواسعة. والحكومة مطالبة بتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني، والمبيدات والعلاجات الطبية البيطرية، وباسعار مدعومة.

وبات ملحا تنشيط دور وعمل الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، لأخذ دوره المهني كاملا، وليسهم في تنمية القطاع الزراعي وتأمين سلة الغذاء للمواطن، وبما يجعله منظمة مهنية تدافع عن حقوق الفلاحين وصيانة مكتسباتهم.

أزمة الكهرباء.. بلا حلول!

لا تزال أزمة الكهرباء مفتوحة بلا حدود زمنية، ورغم كل الوعود الحكومية بأن يكون هذا الصيف أفضل، لكن الأوضاع تكشف ان صيف العام 2024 متعب ومرهق للعراقيين.

معلوم ان مليارات الدولارات (قد تكون تجاوزت الـ (100) مليار دولار من بعد 2003) قد صُرفت على ملف الكهرباء. كذلك ان تخصيصات وزارة الكهرباء هي الثانية في موازنة 2024 بعد النفط، وبلغت أكثر من (18) تريليون دينار. لكن هذا كله لم يعالج الأزمة، رغم كل ما يملكه العراق من إمكانات مالية وبشرية.

ان العراق، كما يقدر متخصصون، يخسر سنويا اكثر من (40) مليار دولار بسبب نقص الطاقة، وتشمل هذه الخسائر الأموال الكبيرة التي يصرفها العراقيون لشراء الكهرباء من المولدات، وتقدر بأكثر من مليار دولار شهريا، وكذلك الخسائر في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، والمشاكل الصحية الناجمة عن انقطاع الكهرباء المستمر.

وعند النظر بشكل شامل لهذه الأزمة، يمكننا القول بثقة إن شبكة الكهرباء الوطنية تعاني من نقص في الطاقة المجهزة وهدر في نقلها، وتهالك شبكات النقل، بالإضافة إلى سوء وعدم عدالة في توزيعها. ولا تزال الشبكة تعتمد اعتمادا كبيرا على الغاز المستورد، الذي يشهد تذبذبا وانحسارا في أوقات كثيرة، وخاصة في أوقات الذروة.

من المعيب ان تستمر هذه الأزمة حتى اليوم في حين كان هناك من بشّر في 2013، وفي 2017 بأن الأزمة ليس في طريقها للحل وحسب، بل سيكون لدينا فائض للتصدير!

إن المداخل السليمة لمعالجة هذا الملف، تتعلق بصرف التخصيصات المالية للكهرباء في محلها الصحيح، وإبرام عقود مع الشركات الرصينة وتوفير أجواء عمل سليمة لها، وعدم التعويل على مشاريع ربط الكهرباء مع دول الجوار التي لا تعالج الأزمة. وأن يرافق ذلك حملة لصيانة شبكات النقل والتوزيع المتهالكة، وتركيب عدادات إلكترونية لمعرفة حجم الاستهلاك، خصوصاً في الأماكن التجارية والعامة وبيوت المسؤولين، وأن تُجبى الأموال بصورة مناسبة منهم، مع مراعاة أصحاب الدخول المحدودة والفقراء والكادحين.

وفي هذا السياق، لا بد من التوجه الجدي لاستثمار الغاز، وانتاجه محليا والتعويض عن المستورد من ايران وغيرها، واتخاذ خطوات سريعة لإيقاف حرق الغاز وتبديد هذه الثروة الوطنية.

ويؤكد حزبنا الشيوعي أن حل مشكلة الكهرباء المزمنة يتطلب إرادة سياسية حقيقية تنظر إلى معاناة الشعب قبل الاستعراض الإعلامي ومحاولة الكسب السياسي من قبل المسؤولين. كما أن جميع الحلول ستظل معلقة ويصعب تنفيذها إذا استمرت قوى المحاصصة ومافيات الفساد في ادامة هذه الازمة مراعاة لمصالحها ومصالح رعاتها الخارجيين وزيادة سرقاتها.

الفساد والسلاح.. أذرع المحاصصة!

تشجع المحاصصة على تنامي الفساد، هذه الآفة التي لا تزال تتعمق ونتشعب وتأخذ اشكالا وصيغا مختلفة بعدما تفشت في مؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية، ووجدت طريقها للأسف الى المجتمع.

كما انها غدت منظومة متكاملة يتعشق فيها الفاسدون والمرتشون مع جهات وافراد متنفذين. ورغم اعلان الحكومة عن تصديها للفساد، وما تعلنه هيئة النزاهة من ارقام ومعطيات، اتضح ان هذه الإجراءات المتخذة لها سقف محدد يصعب تجاوزه، لذا ظلت ملفات فساد كبيرة مركونة. كما لم تُدفع بعض الخطوات المتخذة الى نهايتها المنطقية والمطلوبة، مثلما حصل مع «سرقة القرن»، وأيضا تجلى ذلك في الموقف من عدد من المتنفذين الذين طالتهم الاتهامات بالفساد.

واللافت في هذه الأيام، التلاعب بأراضي الدولة وعقاراتها والاستحواذ عليها، من جهات وافراد متنفذة، تحت عناوين مختلفة، وبعضه تحت ذريعة الاستثمار، بينما الواقع هو غير ذلك، حيث يتم تقطيع الأراضي وتأجيرها او بيعها الى المواطنين، فيما الدولة تتعامل مع هذه الحالة كأمر واقع.

ويذكر المراقبون ان هناك أكثر من (150) ألف موظف فضائي وأكثر من (200) ألف موظف يتقاضون رواتب مزدوجة، ما يكلف خزينة الدولة حوالي (30) مليار بالإضافة إلى ذلك هناك أموال طائلة من الجمارك والضرائب لم تدخل خزينة الدولة بسبب التحايل والتلاعب والفساد. وتقدر هذه الأموال بحوالي (6) إلى (7) مليارات دولار سنوياً. وجراء الفساد بأنواعه المختلفة يصل الهدر السنوي للمال العام الى (50) مليار دولار سنويا وفقا لمتخصصين.

وترتبط عملية محاربة الفساد ارتباطا وثيقا بملف السلاح السياسي والمنفلت. فالفساد يشكل دعما للسلاح خارج مؤسسات الدولة الدستورية، والأخير يمثل حاميا للأول. لذلك لا يمكن تفكيك منظومة الفساد من دون مواجهة حازمة للسلاح الموجود خارج سيطرة الدولة.

إن الإجراءات التي دشنتها الحكومة بتشكيل مكاتب لشراء سلاح المواطنين، لا يمثل حلا شاملاً للمشكلة، إنما يأخذ جانبا منها، ويترك الجانب الأكثر وضوحاً وتأثيراً على أوضاع البلاد، والمتمثل بسلاح الجماعات المسلحة وما تمتلكه العديد من العشائر وتحت عناوين أخرى مختلفة.

ان التصدي لظاهرة الفساد يحتاج الى حملة وطنية شاملة وتفعيل القوانين النافذة وان تطال جميع الأطراف المتورطة بالفساد. وبدءا يتوجب الاّ تُسيّس اية إجراءات لملاحقتها، وان لا تعرقل تحت اية ذريعة، وان يلاحق الفاسدون، أيا كانت قومياتهم وطوائفهم واديانهم وتوجهاتهم ومواقعهم السياسية والوظيفية في الدولة. وان التصدي الناجع للظاهرة يتطلب التوقف عند عوامل وأسباب انتشارها وتفشيها، وتعرية من يقف وراءها ويديمها، وهو ما يوجب ان تكون له الأولوية في الحد منها وإنقاذ بلدنا من هذه الآفة.

مجددا.. موقفنا من الوجود العسكري الأجنبي

يرى حزبنا الشيوعي أن إنهاء كل وجود عسكري أجنبي على أرض بلادنا هو مطلب وطني وهدف ينبغي العمل بجد لتحقيقه، وتوفير شروط ذلك ومستلزماته، وأهمها تحقيق اجماع وطني عراقي على ضرورة انهاء هذا الوجود، وتعزيز الوحدة الوطنية وأجواء الثقة بين مختلف أطياف ومكونات شعبنا، إلى جانب تعزيز قدرات قواتنا المسلحة تسليحا وتدريبا وجاهزية، والنأي ببلادنا عن الصراعات والمحاور في المنطقة، وألا تكون ساحة لصراعات القوى الدولية المتنافسة.

والسير على هذا الطريق يستوجب إخضاع جميع القطاعات والمؤسسات العسكرية والأمنية على اختلاف أنواعها إلى جهة مركزية واحدة، بما يضمن وحدة القرار العسكري والأمني للدولة مثلما حددها الدستور، والمتجسدة في القائد العام للقوات المسلحة. وهذا من شأنه ان يحد من حالات الانفلات الأمني وعدم الانضباط وغياب التنسيق.

كما تتأكد أهمية اتخاذ إجراءات حازمة لحصر السلاح بيد الدولة ومؤسساتها الشرعية المخولة، وعدم التراخي في الملاحقة القانونية لمن لا يلتزم بذلك.

وحزبنا الشيوعي مع انفتاح بلادنا على الأطراف العربية والإقليمية والدولية وإقامة علاقات متوازنة ومتكافئة مع دولها على أسس المصالح المشتركة والتعاون المتبادل، مع مراعاة استقلال العراق وسيادته ووحدة أراضيه ومصالحه وقراره الوطني المستقل، وعدم السماح بالتدخل في شؤونه الداخلية من أية جهة كانت وتحت أيّ مسمى.

واقع بيئي متدهور

يواجه العراق تحديات بيئية كبرى، فعناصر الحياة ومصادرها الأساسية من هواء وماء وتربة وغيرها، يسمّمها التلوث واسع النطاق وغير المسبوق، ويحوّلها الى مصادر للامراض والاوبئة الفتاكة والتشوهات الولادية، والى عوامل أساسية في تردي جودة الحياة وتدهور ظروف العيش.

وتظهر المعلومات المتداولة ان التلوث الناجم عن انبعاثات عوادم السيارات ومولدات الكهرباء ومحطات الطاقة الكبرى والمنشآت النفطية والمعامل وسواها، وعن عدم معالجة مياه الصرف الصحي والمجاري ومياه المبازل والمصانع والمستشفيات، وعدم طمر او تدوير ومعالجة عشرات آلاف الاطنان من النفايات يوميا، وعدم الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والذي يضاعفه التجريف المتزايد للاراضي الخضراء وازالة الغطاء النباتي. ان التلوث الناجم عن هذه وغيرها من العوامل يتفاقم باضطراد، وان تأثيره يتضاعف بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات هطول الامطار وشح المياه وتدمير الغطاء النباتي والتقليل المتواصل للمساحات الخضراء، وما يؤدي اليه هذا كله من جفاف وتصحر، واجواء متربة ومغبرة.

ومن القضايا المفصلية والأساسية في وقف هذا التدهور البيئي هو تأمين المياه للأغراض المختلفة، خصوصا بعد تمادي الجارتين تركيا وايران في حرمان العراق من حصته العادلة في مياه نهري دجلة والفرات.

 إن حزبنا يتابع باهتمام كبير تدهور الواقع البيئي في العراق، ويعتبره من أكبر وأخطر التحديات التي تواجه حاضر بلدنا ومستقبله، وينبغي أن تكون البيئة في صدارة القضايا التي تستدعي اهتمام القوى والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني والأهلي، والحكومة الإتحادية والحكومات المحلية، ولكن ما يثير القلق ان هذا كله لا تقابله اجراءات حكومية مناسبة، تحد منه وتوقف مخاطره.

كما ان وزارة البيئة مهمَلة، فهي وزارة رقابة وبحوث لا وزارة قرار وتنفيذ، مجردة من الصلاحيات عمليا، وتعيش على فتات من التخصيصات المالية لميزانيات الدولة السنوية.

ان الحكومة ومؤسسات الدولة المختلفة مسؤولة عن إيلاء الموضوع البيئي ما يستحقه من اهتمام ودعم عمل مختلف الجهات ذات العلاقة، وان تعطي مؤسسات الدولة على اختلافها مثالا محفزا في هذا السياق. كما انه يتطلب زيادة التخصيصات لوزارة البيئة كي تنهض بدورها.

التضييق على الحريات!

تؤشر مجريات الاحداث والتطورات، وكذلك الإجراءات التشريعية والتنفيذية وجود نهج يسعى إلى تقويض مساحات الحريات المدنية، وقضم ما هو محدود من هامش ديمقراطي في البلد.

ثمة مؤشرات عديدة يمكن تناولها كأمثلة في هذا الشأن، ومنها التضييق على نشاط المنظمات الطلابية، وكذلك الإجراءات الرقابية المتشددة على نشاط منظمات المجتمع المدني، فضلاً عن تشريع قوانين جديدة مقيدة، ومساعي التعديل على قوانين أخرى منها المادة (57) من قانون الأحوال الشخصية.

وتزامنت تلك الممارسات الممنهجة مع أخرى تحاول النيل من كل الأصوات الناقدة للوضع العام، بحجة «التشويش على الاستقرار» و»الإضرار بسمعة الدولة» وغيرها من المبررات التي تسوقها قوى السلطة ومسؤوليها. وشملت هذه الممارسات القمعية توقيف ناشطين، وتعميم كتب من وزارة التربية تمنع المعلمين من ابداء الرأي في الشأن السياسي على مواقع التواصل الاجتماعي، وانتزاع تعهدات مماثلة من الطلبة.

ولم تكتف السلطات بذلك، بل عمدت إلى قمع الاحتجاجات في اكثر من مناسبة ومكان، الأمر الذي مر من دون عقاب لمن وجه ونفذ القمع، وأمام مرأى ومسمع أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجالس المحافظات، الذين لم يحركوا ساكناً.

ويبدو واضحا أن القوى والأحزاب القابضة على السلطة باتت تضيق أكثر بالنقد وتحاول جديا أن تمنع عودة الحراك الى الشارع العراقي عبر شراء الذمم تارة، وبالتضييق والتهديد تارة أخرى.

ان هذه الممارسات والانتهاكات الفظة لحريات وحقوق أساسية توضح وجود محاولات لفرض هيمنة ثقافية معينة، كما تشير الى بُعد الانحراف عن مسار بناء دولة ديمقراطية يتمتع كافة أبنائها بالحقوق والحريات، وفقا لما ينص عليه الدستور، وتؤشر بإلحاح ضرورة العمل لوقف أي تهديد للحريات.

وهذا يتطلب ان تتوحد جميع القوى على اختلاف مستوياتها أحزابا ومنظمات وشخصيات وطنية، من اجل حماية الحقوق والحريات الديمقراطية وكما جاءت في الدستور.

مهمات أمام القوى المدنية الديمقراطية

تواجه القوى المدنية والديمقراطية تحدي لملمة صفوفها وتجاوز نتائج الانتخابات الماضية، ليس فقط من اجل الاستعداد لخوض المعارك السياسية المقبلة والنهوض بدور فاعل في الحراك الاحتجاجي ومواصلة النضال بثبات لتحقيق البديل المدني الديمقراطي، بل وايضا مواجهة التحديات الراهنة وإفشال كل مساعي وأشكال الهيمنة التي تحاول أطراف سياسية حاكمة فرضها كواقع حال!

كما ان هشاشة الوضع الاقتصادي، وتردي الخدمات وانتهاك الحريات، ملفات ينبغي على القوى الحاملة لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية التصدي لها بحزم، والتعامل معها وفق وحدة الموقف والتحرك.

إن السخط الواسع على منظومة المحاصصة والفساد الحاكمة وقواها الذي تعبر عنه الجماهير في مناسبات عديدة، يؤكد حاجة العراقيين إلى بروز بديل سياسي مدني وديمقراطي، واضح وناضج يأخذ زمام المبادرة في قيادة الجماهير نحو تحقيق التغيير المنشود.

لقد سعى حزبنا على مر السنوات الماضية نحو توحيد مواقف القوى المدنية، ولمّ شملها في تحالفات أساسها البرنامج، وهو ماضٍ في ذات المسعى، من خلال تعزيز وجوده في التيار الديمقراطي الذي عقد مؤتمره الرابع قبل شهرين، وتكللت أعماله بالنجاح. كذلك من خلال نشاطه المستمر في «تحالف قيم المدني» الذي يضم قوى مدنية ديمقراطية وأحزابا ناشئة تتبنى مشروعا طموحاً للتغيير.

وفي ظل التطورات الحاصلة والتحديات على المستويين الداخلي والخارجي، ينبغي علينا إدراك ان مشروع التغيير الشامل لا يمكن تحقيقه عبر تحالفات سياسية وحسب، بل يستوجب ان نخوض نضالا واسعا تكسب فيه القوى المدنية الديمقراطية ثقة أوسع شرائح المجتمع، وفي مقدمتها الفاعلون في الحركات الشعبية والاحتجاجية، والناشطون في النقابات والاتحادات والمنظمات.

ان التجربة تشير أيضا الى أهمية الانفتاح الواسع على القوى والشخصيات الديمقراطية المتطلعة لغد أفضل، فمجتمعنا بطبيعته المدنية ينشد الحياة الديمقراطية الحقيقية التي لا بد منها لتحقيق التغيير الشامل.

إن واجب القوى المتطلعة الى التغيير، للخلاص من منظومة المحاصصة والفساد، ان تكون مبادرة ومشاركة بفعالية اكبر في الحراك الاحتجاجي، المناطقي والمطلبي والسياسي، وتنظيمه وتحديد أولوياته واستقطاب الجماهير والمجاميع المعارضة والمحتجة، الى أوسع حراك جماهيري وشعبي ضاغط، حيث هو المعوّل عليه أساسا في فرض مطالب الشعب، وما يتطلع الى تحقيقه.

وفي هذه اللحظات الصعبة التي يعيشها بلدنا، تنهض امام الشيوعيين وأصدقائهم جملة من المهام المطروحة على أجندة العمل، تتلخص في:

  • العمل على تعزيز إمكانيات الحزب، وتطوير بنائه التنظيمي، وبث الحيوية في كافة مستويات تنظيمه، وتطوير حياته الداخلية عبر الالتزام بالقواعد الديمقراطية، والتقيد الواعي بالخط السياسي للحزب، وتعضيد نشاطه بالمبادرات الخلاقة.
  • تعزيز حضور الحزب في الحياة السياسية والاجتماعية، وتمتين صلاته وعلاقاته بالجماهير، والدفاع عن مصالحها وحقوق العمال والكادحين، وحقوق المرأة، وعن الحريات والحقوق المدنية، وزيادة فاعلية منظماته ورفاقه ومبادراتهم في الحركات الاحتجاجية، والارتقاء بمستوى تنظيمها واشكال نضالها السياسي السلمي.
  • الشروع في بناء أسس الرقابة الشعبية في جميع محافظات ومناطق الوطن، بهدف تعزيز مشاركة أوسع القطاعات الشعبية في مراقبة أداء مجلس النواب وتنفيذ الحكومة لبرنامجها.
  • العمل على تقوية التيار الديمقراطي العراقي، وتنشيط تنسيقياته وتعزيز العمل المشترك مع الأحزاب والحركات في تحالف قيم المدني، وتقوية دوره في الحياة السياسية.. إلى جانب العمل مع جميع القوى ذات النهج الوطني الديمقراطي على صياغة البديل السياسي القادر على تغيير موازين القوى لمصلحة طموحات وتطلعات أبناء شعبنا.

إن التغيير الذي نشدد على تحقيقه، ليس مجرد رؤية سياسية للخلاص من الوضع الراهن. أنه مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي نسعى إلى التأسيس له، ليكون البديل المنشود الذي تتطلع له جماهير شعبنا، ويبقى التعويل الأساس في ذلك على استنهاض حركة جماهيرية فاعلة تتعشق مع اصطفاف شعبي وسياسي واسع لفرض إرادة التغيير.

تطورات المنطقة والبلدان العربية

يتواصل العدوان الصهيوني الهمجي وحرب الإبادة الشاملة التي تشنها اسرائيل منذ اكثر من ثمانية أشهر على قطاع غزة الصامد والشعب الفلسطيني، التي راح ضحيتها حتى الآن اكثر من (37) الف شهيد، غالبيتهم من الاطفال والنساء، والتدمير الكامل للبنى التحتية بما فيها الصحية. ويتعرض الفلسطينيون الى حصار ظالم وتجويع، وتنهج حكومة نتنياهو الفاشية سياسة التهجير القسري وافراغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الأصليين.

ودخلت هذه الحرب الاجرامية في الايام الأخيرة طورا خطيرا ينذر بإتساع نطاقها لتشمل منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بعد تصاعد التهديدات التي أطلقها قادة الاحتلال الصهيوني ضد لبنان بالتخطيط لعملية اجتياح واسعة لأراضيه. وجاء ذلك بعد فشلهم في تحقيق الاهداف المعلنة للحرب على غزة وتزايد الضغوط الدولية لإنهائها والمطالبة بانسحاب كامل للقوات الاسرائيلية، وإدانتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية امام المحكمة الجنائية الدولية، واتساع عزلة اسرائيل بعد القرارات الاخيرة لمحكمة العدل الدولية، وتعاظم حركة التضامن العالمية المساندة للشعب الفلسطيني.

وتؤكد هذه التطورات مجددا ان لا استقرار ولا أمن يمكن ان يتحققا في منطقة الشرق الأوسط دون الوقف الفوري للحرب القذرة في غزة، وفك الحصار عنها، والتوجه الجاد الى معالجة آثار الكارثة الانسانية التي تسببت بها دولة الاحتلال وحلفاؤها والداعمون لها.

تضامن طلابي عالمي

وتصاعدت على نحو غير مسبوق في الاشهر الماضية موجة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الامريكية ضد حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة ودعم ادارة بايدن لها، لتشمل عشرات الجامعات، رغم ما تعرضت اليه من إجراءات قمعية. وأعلن الآلاف من الأكاديميين والعاملين في الجامعات تضامنهم معها. وشملت مطالب الاحتجاجات سحب استثمارات الجامعات من الشركات المرتبطة باسرائيل، وقطع العلاقات الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية، ودعم وقف الحرب في غزة.

والهمت هذه الاحتجاجات الطلبة في أوروبا وبلدان عديدة في ارجاء العالم لتنظيم احتجاجات مماثلة. وهي تستحضر أجواء العام 1968 التي شهدت تظاهرات ضخمة للطلبة والعمال في الولايات المتحدة ضد حرب فيتنام. وجاء الحراك الطلابي على خلفية وقوف (51) في المئة من الأمريكيين ضد الحرب على غزة، التي أسهمت في هبوط رصيد الرئيس بايدن واهتزاز وضعه داخل قاعدة حزبه، وقد تهدد إعادة انتخابه في اواخر العام الحالي.

الاعتراف بدولة فلسطين

وبعد سلسلة من الاعترافات بدولة فلسطين، جاء الإعلان الثلاثي الأوروبي لكل من إسبانيا وإيرلندا والنرويج، بالاعتراف الرسمي بها ليعكس تحولا هاما في الرأي العام العالمي، ويعزز العمل من اجل انتزاع قرار من مجلس الأمن لتحديد موعد زمني لإجبار الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب من أراضي دولة فلسطين وعاصمتها القدس، وهي كامل الأراضي المحتلة عام 1967 كما اعترفت بها الأمم المتحدة عام 2012.

لقد دان حزبنا بقوة جرائم الاحتلال الصهيوني، مطالبا بوقف حرب الإبادة وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، ووقف اعتداءات قطعان المستوطنين والقوات الاسرائيلية واستهداف الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس ومصادرة بيوتهم واراضيهم وتوسيع الاستيطان. كما طالب بوقف دعم ماكنة القتل الاسرائيلية من أمريكا وغيرها من الدول المنحازة للعدوان. ودعا جماهير شعبنا العراقي وقواه الوطنية والديمقراطية الى تصعيد التضامن مع الشعب الفلسطيني.

كما شارك حزبنا مع الأحزاب الشقيقة في البلدان العربية بتوجيه نداء الى اجتماع الفصائل الوطنية الفلسطينية، الذي عقد في موسكو في مطلع آذار الماضي، لاتخاذ قرارات تحقق الوحدة الوطنية الفلسطينية باعتبارها مهمة ملحة لا تقبل التأجيل، وشرطا حاسما لدحر العدوان الصهيوني – الأمريكي ومشاريع التهجير الصهيونية الخطيرة. واعتبر ان ذلك سيعزز ايضا مقاومة التطبيع مع كيان الاحتلال، والمطالبة بإلغاء اتفاقات التطبيع المذلة معه. كما سيلهم حركة التضامن العالمية لتصعيد التحرك من اجل وقف حرب الإبادة وملاحقة ومحاكمة قادة الاحتلال الصهيوني وقادة الدول الداعمة لجرائمه.

وفي هذا السياق، يُشار الى ان وحدة الموقف الفلسطيني تجلت في الموافقة فلسطينيا على مقترح لوقف إطلاق النار في مطلع ايار الماضي. ومن شأن تعزيز مثل هذه التفاهمات الفلسطينية، ان يشدد عزلة إسرائيل دوليا، ويسهم بدعم التحرك الصيني والروسي لعقد مؤتمر دولي للسلام لإنهاء الاحتلال الصهيوني، وتعزيز الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

واذ يؤكد حزبنا الشيوعي موقفه الثابت الداعم والمنحاز الى الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والديمقراطية فإنه يطالب، مع كل القوى المحبة للحرية والسلام في العالم، بانهاء الاحتلال الإسرائيلي والانتصار للعدل والقيم الانسانية والاستجابة العاجلة لحقوق شعب فلسطين في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة على ارضه وعاصمتها القدس.

السودان

في السودان، تستمر الحرب الدموية العبثية التي اندلعت في نيسان 2023، مخلّفة وراءها كارثة إنسانية راح ضحيتها اكثر من (30) الف شخص، واسوأ أزمة نزوح في العالم شملت اكثر من (10) ملايين شخص.

وشهدت الأسابيع الأخيرة ارتكاب المزيد من المجازر المروعة في مناطق مختلفة، منها اقليم دارفور والعاصمة الخرطوم والفاشر، واخيرا في ولاية الجزيرة حيث ارتكبت ميليشيا قوات الدعم السريع في مطلع حزيران جريمة قرية «ود النورة» وقتلت أكثر من (180) من المدنيين، غالبيتهم من النساء والأطفال.

وفشلت محاولات وقف اطلاق النار التي جرت برعاية امريكية – سعودية، والتي كانت تهدف بالأساس الى استعادة الشراكة التي كانت قائمة بين طرفي الحرب، قادة الجيش وميليشيا الدعم السريع، اللذين كانا وراء الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021 لقطع الطريق على القوى المدنية الديمقراطية ونضالها من اجل تحقيق مطالب ثورة الشعب في كانون الأول (ديسمبر) 2018 التي اطاحت بنظام البشير الدكتاتوري.

وفيما رحب الحزب الشيوعي السوداني بأي اتفاق لوقف الحرب وترسيخ الديمقراطية والسلام وتحسين الأوضاع المعيشية، ويمهّد لبناء دولة مدنية ديمقراطية وتحقيق السيادة الوطنية، فانه رفض، مع قوى «تحالف التغيير الجذري»، أي تسوية تعيد انتاج الأزمة التي قادت الى كارثة الحرب، وتخدم مصالح القوى الإمبريالية والإقليمية الرجعية وأجنداتها في إدامة هذه الحرب الاجرامية والاستمرار بنهب موارد السودان. فمن شأن ذلك إعادة البلاد الى ذات المسار السياسي الإجتماعي، طريق التخلف والفقر وارتهان سيادة البلاد وتهديد وحدتها وتكرار تقسيمها. وانطلاقا من ذلك، اعتبر الحزب الشقيق ان الاتفاق الذي أعلنته «قوى الحرية والتغيير» مع «المجلس العسكري الانتقالي» مؤخرا، في مطلع حزيران 2024، يكرّس هيمنة العسكر ويجافي مدنية الدولة التي هي مطلب الشعب، وقرار الاتحاد الأفريقي بتسليم السلطة للمدنيين.

ان حزبنا الشيوعي العراقي يؤكد دعمه الثابت للقوى الديمقراطية السودانية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي السوداني، التي تناضل في ظروف بالغة الصعوبة، من اجل السلام الشامل وتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي يكون فيه الشعب صاحب القرار ومالك مستقبله ومصيره، بتأسيس دولة مدنية ديمقراطية تقوم على المواطنة وتحقيق العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية.

ان الاوضاع البالغة الخطورة والمعقدة التي تشهدها منطقتنا، مع استمرار حرب الابادة الإسرائيلية على غزة واحتمال اتساعها لتشمل المنطقة، ستكون لها تداعيات كبيرة على أوضاع بلداننا العربية، ما يتطلب من قوى اليسار والتقدم والديمقراطية رفع مستوى التنسيق بينها، وتطوير مواقف مشتركة لمواجهة هذه التحديات والمخاطر. كما يستوجب رفع مستوى اليقظة ازاء ما تحيكه الإمبريالية الامريكية وحلفائها من مخططات عدوانية لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، بهدف القضاء على المقاومة الوطنية الفلسطينية وإدامة الاحتلال الصهيوني، واستئناف مسيرة التطبيع المذل بتواطؤ مشين من الأنظمة الرجعية العربية لبناء تحالف استراتيجي، أمني عسكري واقتصادي، تولى قيادته لاسرائيل مع ضمان تفوقها الساحق، من اجل إدامة هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط والتحكم بثرواتها ومواردها، وذلك في اطار استراتيجية الأمن القومي الامريكية وأهدافها البعيدة المدى على الصعيد العالمي. ولابد لقوى اليسار، وبالأخص الأحزاب الشيوعية في المنطقة، التأكيد على الترابط الوثيق بين النضال الوطني التحرري ضد الإمبريالية ومخططاتها ومن اجل السلام وبين نضالات شعوب هذه البلدان وقواها الوطنية ضد الأنظمة الرجعية والمعادية للديمقراطية. وبالتالي ضرورة تصعيد التضامن معها لتحقيق التغيير السياسي الديمقراطي والاجتماعي التقدمي، مع الاستمرار بحشد وتصعيد كل أشكال التضامن الشعبي والرسمي والشعبي مع الشعب الفلسطيني في كل بلد من البلدان العربية، وعلى صعيد المنطقة والعالم.

تطورات على الصعيد العالمي

يشهد العالم أوضاعا مضطربة أكثر من أي وقت مضى في العقود الثلاثة الماضية جراء استمرار وتصاعد الحروب والنزاعات في مناطق عدة، من ضمنها اوروبا والشرق الأوسط وافريقيا، ما يشكل تهديدا خطيرا للسلام العالمي. ويقترن ذلك بهستيريا الحرب التي تؤججها الإمبريالية الامريكية وحلفاؤها، وتشكيل المزيد من المحاور والاحلاف العسكرية والأمنية استعدادا لحروب مقبلة، وخلق ظروف مؤاتية لتنامي النزعات الفاشية وصعود قوى اليمين المتطرف، وبمساع محمومة لمواجهة أفول هيمنتها وعرقلة انبثاق نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب على انقاض نظام القطب الواحد.

وتتجلى معالم هذا الوضع المحفوف بمخاطر جسيمة في استمرار الحرب بين روسيا وأوكرانيا، التي تغذيها واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي، وحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة والشعب الفلسطيني، بدعم وتواطؤ أمريكي سافر.

وفي سياق تأجيج الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا منذ شباط 2022، ومنع أية بوادر للتوصل الى تسوية سلمية عبر التفاوض بين الطرفين، وقّع الرئيسان الأمريكي والأوكراني في قمة مجموعة السبع في ايطاليا على اتفاقية أمنية أمدها (10) سنوات تلزم واشنطن بدعم كييف عسكريا في حال تعرضها الى هجوم آخر مستقبلا. كما وافقت دول السبع على منح قرض لأوكرانيا بقيمة (50) مليار يورو لتعزيز قدراتها العسكرية، عبر استخدام المال الناتج عن الأصول الروسية المجمدة. في المقابل، تكرر تلويح موسكو بإستخدام اسلحة نووية تكتيكية اذا تهدد وجود الدولة الروسية.

الانتخابات الاوروبية

تمخضت انتخابات البرلمان الأوربي التي شملت (27) بلدا، وجرت في (6) الى (9) حزيران الجاري، بشكل عام عن تعزيز مواقع اليمين واليمين المتطرف، خصوصا في فرنسا والمانيا وايطاليا، رغم ان ذلك لم يغير احتفاظ كتل اليمين التقليدي وقوى الوسط في البرلمان بالأغلبية. وفي المقابل، تحققت نجاحات يسارية في بلجيكا وبعض البلدان شمال أوربا، وتحديدا في السويد والدنمارك وفنلندا.

ومنّيت احزاب حاكمة بخسائر كبيرة في هذه الانتخابات. ففي المانيا، حصل الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يقود التحالف الحاكم على أسوأ نتيجة انتخابية أوروبية في تاريخه، بنسبة (14.2) في المائة. واحتل حزب «البديل من أجل المانيا» اليميني المتطرف المركز الثاني.

ولحقت الهزيمة الكبرى بحزب الرئيس الفرنسي ماكرون. وأعلن إثر ذلك عن حل مجلس النواب (الجمعية الوطنية)، ودعا إلى انتخابات مبكرة في (30) حزيران الجاري، رداً على تصدر اليمين المتطرف، الذي يمثله «حزب التجمع الوطني»، نتائج الانتخابات بحصوله على أكثر من (32) في المائة، أي ضعف ما حققه الحزب الحاكم.

وتوقعت بعض استطلاعات الرأي ان يفوز «حزب التجمع الوطني» المتحالف مع «حزب الجمهوريين» بما بين (250) و(300) مقعد في الجمعية الوطنية المقبلة، ما سيمنحه غالبية قد تصل في حدها الأقصى إلى الغالبية المطلقة المحددة بـ(289) مقعدا. وهو ما سيمكّن اليمين المتطرف من قيادة الحكومة للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

وفي مواجهة هذا التحدي غير المسبوق توحدت قوى اليسار الفرنسية واعلنت تشكيل «الجبهة الشعبية الجديدة»، التي تضم (7) احزاب من بينها الحزب الشيوعي وحزب «فرنسا الأبية» والخضر والاشتراكيين. وأعلن هذا التحالف القطيعة مع «سياسة الليبرالية الجديدة والاستبداد السابقة».

وفي شمال اوروبا، حققت احزاب اليسار والخضر نجاحا مهما، في حين تراجعت الأحزاب اليمينية المتطرفة. ففي فنلندا، حقق حزب «تحالف اليسار» تقدماً بحصوله على (17.3) في المائة من الأصوات، بزيادة (4) في المائة مقارنة بعام 2019.

وفي السويد، حصل حزب اليسار على (10.7) في المائة، بزيادة قدرها (4) في المائة. وحقق حزب الخضر تقدما بحصوله على (15.7) في المائة من الأصوات، بزيادة قدرها (4.2) في المائة.

وفي بلجيكا، تمكن حزب العمل من الحصول على (10.7) في المائة من مجموع الاصوات، ليصبح أقوى حزب يساري في البلد، ويواصل نجاحاته التي حققها في العقدين الأخيرين.

 الانتخابات الهندية

وفي الهند، التي تتصدر الدول الأعلى بعدد السكان في العالم وتُعد خامس أكبر اقتصاد في العالم، مني حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم الذي يتزعمه الرئيس ناريندرا مودي بخسائر مفاجئة، رغم فوزه بولاية ثالثة متتالية في منصبه. فقد حصل على (240) مقعدا، وهو أقل بكثير من الـ (272) مقعدا اللازمة لتأمين أغلبية الحزب الواحد في البرلمان كما كان متوقعا. وهي المرة الأولى التي يفشل فيها بالحصول على أغلبية كبيرة. كما فقد حزبه ما يقرب من نصف مقاعده في ولاية أوتار براديش التي ترسل عددا من المشرعين إلى البرلمان أكبر من أي ولاية أخرى في الهند.

واعتبر الشيوعيون هذه النتائج هزيمة لـ»حكم الحزب الواحد الفاشي الطائفي والاستبدادي» بزعامة مودي، وان الشعب اصدر حكمه دفاعا عن الدستور والنسيج الديمقراطي العلماني للبلاد، وضد سياسات الكراهية والتمييز والبطالة المتزايدة والهجمات على الفيدرالية والأقليات والحقوق الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما طالبوا بإصلاحات انتخابية شاملة.

وازاء التحديات الكبرى والمخاطر المتزايدة على السلام والأمن في العالم تواجه قوى اليسار، ومن ضمنها الاحزاب الشيوعية والعمالية، مهمة تطوير وحدتها وبناء جبهات عريضة للسلام، والتصدي لمساعي واشنطن وحلفائها في حلف شمال الاطلسي لإحياء الحرب الباردة وخلق بؤر توتر عالمية جديدة، والتحذير من خطر نشوب صراع نووي، وتأييد حق الشعوب في تقرير مصيرها وحماية سيادتها الوطنية، والتضامن مع القوى التي تناضل في بلدانها من اجل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والسلام.