اخر الاخبار

يهيمن الألم الإنساني والوجع العراقي تخصيصاً على مساحة هذه المجموعة بقصصها الثلاثة عشرة، وجع الغياب والحنين ومعاناة الغربة، ويتجلى هذا عن طريق الإشارات التي تبثها النصوص بمتونها وهوامشها وعناوينها ولا يقتصر الأمر على المحتوى الداخلي للمجموعة بل يتعداها في النظر إليها من أطرها الخارجية كالأمكنة والتواريخ وحتى عدد القصص وترتيبها.

يجد القارئ نفسه ومن دون مقدمات مع عنوان المجموعة ومفردة الصبر وما ترسمه من معان وظلال تستدعي المعاناة والقدرة على التحمل المتزامن مع الهدوء، فلا معنى لصفة الصبر من دون الهدوء والتحمل للمشاق والصعوبات بغض النظر عن تنوعاتها، وهكذا ترتسم ألوان الغلاف الأمامي الثلاث هادئة ومتصالحة مع بعضها وهي تتسيّد المشهد بينما تتكتل العيون المفتوحة في الوسط أو القلب لتقول له – للقارئ – أنها هي بكتلتها المتراصة المحدقة روح الكتاب وجوهره.

لكن العنوان الكامل هو لعبة الصبر، أي أن الصبر هنا ليس معنى محضاً وإنما ورد مضافاً إلى كلمة لعبة، فهل يمكن للصبر أن يكون لعبةً، هنا تكمن مفارقة دلالية جميلة وموحية، إن كان المقصود باللعبة مباراة فالمنتصر فيها هو من يصبر أكثر، الحضور أم الغياب، الجمال أم القباحة، الضوء أم الظلام، لعبة فَرضَت نفسها على لاعبيها أو فُرِضت عليهم من قوة ما، خفية أو معلنة، وليس أمام القارئ وهو يستدرج إلى لعبة الكاتب إلا أن يلعبها ويصبر ليرى ويستكشف ويقرأ؛ وربما يراد أن الصبر الذي نكابده ونعاني خلاله ليس إلا لعبة عند غيرنا أو مهزلة أو مسرحية نؤدي نحن أدوارها عن جهل وعمى كامل أو جزئي، فالنهاية ستكون المقبرة ومن بعدها سيبدأ طريق آخر أو لعبة صبر جديدة.

القصص تتوزع على ثلاثة بلدان هي العراق، البصرة تحديداً، والأردن وليبيا (أكثر من مكان)، وقد يثير العدد أو الرقم ثلاثة عشر دلالة ما تحيل القارئ - الملتفت إلى عدد القصص- إلى الموروث المسيحي الشرقي المنتشر في العالم والمتمثل بالتشاؤم من ذكرى خيانة يهوذا الأسخريوطي وغدره بالسيد المسيح وصلبه على يد اليهود والتشاؤم من الرقم 13 لأن يهوذا هذا كان الحواري الثالث عشر، وسواء قصد المؤلف هذا أم لم يقصد فليس هناك شيء اسمه الصدفة في العمل الإبداعي ولا حتى في الكون كله، فكما ورد أن رفة جناح فراشة في مكان ما من الأرض يؤثر بدرجة من الدرجات في حركة الكون كله !

وإذا تجاوزنا العنوان وإحالاته والعدد ثلاثة عشر وما يعنيه نجد المساحة الواسعة للجغرافيا وغلبة البيئة الصحراوية على ليبيا والاردن وجانب من البصرة وما الصحراء إلا بيئة الصبر ورمزها الأوضح سفينتها الجمل، ولا أدري لم حرص المؤلف على ذكر المكان والزمان مع كل قصة وبغض النظر عن مراده من ذلك فإن لهذا التوثيق دوره في تعزيز القراءة إذ نجد أن أحدى عشرة قصة كتبت في الأردن وليبيا، أي في أجواء الصحراء أو في مدن مجاورة أو محاطة بالصحراء وبين أهل الصحراء، بينما لم تكتب سوى قصتين في البصرة، لقد كان اختيار عنوان إحدى قصص المجموعة وهو ( لعبة الصبر) عنواناً للمجموعة كلها متسقاً ومنسجماً تماماً مع هذا التوزيع الجغرافي للقصص.

زمانياً تقع قصص الغربة أو الصحراء الإحدى عشرة بين قصتين كتبتا في البصرة، الأولى قصة حورية البحر، وهي القصة الثمانينية الوحيدة ( أقدم القصص أو أولها من حيث الزمن- 1987) والأخيرة قصة المعطف (2014) وهي الوحيدة التي كتبت في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بين القصتين إذن أكثر من ربع قرن، وبينهما هنا إحدى عشرة قصة، إحدى عشرة صحراء، صحراء روح أو صحراء مكان، أو صحراء بشر، وإحدى عشرة لوناً قاتماً وخانقاً من ألوان المعاناة التي رسمها المؤلف بمهارة وبراعة ليس غريبة على من عرف تجربته السردية منذ أن بدأ مشاركاته الأولى ضمن إصدارات (جماعة البصرة أواخر القرن العشرين) تلك الجماعة القصصية المهمة التي شقت طريقها بصبر وإصرار وأناة لعشر سنوات أنجزت خلالها أحد عشر إصداراً رافضاً متمرداً على صعيدي الفن والشفرات في زمن كثر فيه التهافت على موائد السلطة وحتى على فتاتها.

قصة حورية البحر ومن عنوانها تنطلق من الماء من البصرة مدينة البحر ومدينة الأنهار، وقصة المعطف مبللة بالماء، بالضباب الذي يكتنف الطريق إلى المقبرة ! أهذه نهاية اللعبة ؟ أهذه نهاية اللعب، لعبة الصبر، الموت ؟

إن البصرة في هاتين القصتين( حورية البحر والمعطف) هي بداية اللعبة، لعبة الصبر ونهايتها في آن، بل هي المعطف الذي خرجت منه بقية القصص وإن كتبت في بلاد بعيدة، وهي المعطف الذي صنع لعبة الصبر فأخذها العراقي المغترب عن بلاده ومدينته معه أينما حل.

هكذا يقول الترتيب الزماني، البصرة أولاً، والبصرة أخيراً، وربما لم يكن هذا الترتيب مقصوداً بوعي وإرادة من المؤلف، لكن كيميائية الإبداع ورسائله ولغته وشفراتها أعلى من المؤلف بكثير، وليس المؤلف كما أرى سوى ساعي بريد مؤهل تأهيلاً عاليا لإيصال الرسائل بأمانة إلى أهلها..!

الكتابة عن هذه المجموعة ومضامينها يستدعي قراءةً أوسع من هذه وأعمقَ قد يتيسر لي الوقت لمراودتها وأكتفي بهذا الإيجار القرائي عن لعبةِ الصبرِ ومسارها من البحر وعبر الصحراء المترامية وحتى المقبرة، ومن بعد كلّ هذا سينقشعُ الضباب ويتضحُ الطريق، لا وضوح إلا بالصبر والتضحيات، هكذا يقول المقطع الأخير من قصة المعطف، القصة الأخيرة زمانياً وليس الأخيرة وفقاً للفهرست !

( توشك الشمس أن تتوسط السماء. يوقف سيارته على جانب الطريق. يخطو بين القبور الموزعة بفوضى، باتجاه قبر يعرفهُ. يجد معطفه هناك.. ملقى على قبر وكأنه يغطيه. يقف قليلاً قبل أن ينحني ليلتقطه، يضعه على كتفيه.. ثم يعود إلى العربة وقد بدأ صوت محركها يصله بوضوح أكثر كلما اقترب منها.)

السفر مستمر إذن من نهاية طريق إلى بداية طريق جديد ومع كل طريق تستمر لعبة الصبر وتتكاثر المقابر إنما يزداد الصوت وضوحاً وتتسيّد الشمسُ مساحات السماء.

عرض مقالات: