اخر الاخبار

اذهلته مرامي المتغيرات التي لم يكن يتوقعها في بغداد، على الرغم من السنوات الخمس القليلة نسبيا عن آخر مغادرة له، فهو الاستاذ الجامعي المتخصص بالعلوم الاجتماعية والذي اختار التقاعد المبكر ليسكن احدى المدن الاوربية جزعا او اعتراضا او هروبا من تدهور الواقع السياسي والمجتمعي، والخسارات على المستوى الشخصي، الا انه ما انفك يحزم حقائبه كل عام قادما من الشتاءات الاوربية القاسية الى احضان المحبين الدافئة في ثلاثة اسابيع يقضيها بين امسيات الاصدقاء وتجمعات العائلة المترامية الاطراف في مدن البلاد المثقلة بالفقر والفوضى كما يحلو له ان يسميها.

 انه صباح اليوم الخامس من عودته بعد هذا الغياب الاجباري بسبب وباء كرونا وبعض الإلتزامات مع الابناء والاحفاد، أختار أن يستهله بالسير على الاقدام دونما بوصلة او هدف منطلقا من الكرادة باتجاه ساحة الواثق باحثا عن صديق معتق بالحنين كانت عيادته تتوسط مجمع الأطباء هناك، وهي فرصة لاطالة التحديق بحجم التغيرات في شارع النضال، حيث العمارات الشاهقة والزحمة والاعلانات البراقة على واجهات مطاعم او نوادي ليلية لا تنتمي الى اسم او تاريخ الشارع!..

اتعبه التحديق والبحث عن تحليل مقنع لمستويات الرثاثة التي اجتاحت المدينة، اورام من الزوائد في كل شيء، محلات للبالات اكتسحت الارصفة باحذية وملابس قديمة ومستعملة ومعارض لبيع السيارات العملاقة  وعجلات عسكرية تتوسط الشوارع بلا تنظيم، تجاورها كروش هائلة لعناصر من الشرطة بوجوه متجهمة تتفحص المارة بازدراء وشكوك واحتفال بعرس المزامير لسيارات الدفع الرباعي، ولسيارات حديثة يقودها شباب خرجوا توا من جامعاتهم الاهلية، محتفلين بسلطان الفوضى والرثاثة  الذي  يهيمن ويقود دفة الوجود في مدينة السلام!!

كان قراره سريعا قبل ان يرمي نفسه عند اقرب اريكة تقابله لاحتساء فنجان قهوة متأخر عن موعده الصباحي المعتاد ولتكن فرصة استعادة لياقة التفكير العقلاني وقدرة الاستيعاب والتحليل المنطقي لمجريات الامور وتفاعلاتها الاجتماعية...ليدخل تلك الكافتريا المشعة بالانوار والصور المضيئة واشجار من الظليات الموزعة بشكل عشوائي مع ارائك شعبية  وكراسي وثيرة توزعت دونما ذائقة او ترتيب او انسجام لوني.

(لا  ضير.. هو فنجان قهوة سريع وعابر  في مكان لا يخرج عن  نطاق جمهورية الفوضى التي تقيم احتفالها في ارجاء المعمورة) قالها في سره موزعا نظراته بين اركان وزوايا المقهى العصري الذي اعلن عن هويته بصوت مطرب كارثي يردد الهوسات العزائية او العشائرية والتي يحبذها الشباب على انها اغنيات حماسية وشبابية، عن طريق مكبرات الصوت لاجهزة التسجيل  المتوائمة مع احتفالات (الهورنات) في شارعنا الضالي!!

اقتربت منه فتاة عشرينية منفوخة الشفايف والـ...

عموما هي تشبه زحمة الشارع وكروش رجال الشرطة وتلك السيارات الفارهة التي تطلق مزامير الموت..

(تفضل حجي) قالتها بصوت متحشرج وابتسامة غنج مصطنعة.

(مو حجي) اسرع نداء يسمعه الاستاذ الجامعي،  ليبدأ بعد ذلك بتدارك الموقف قبالة هذا الكائن المتورم!

(اريد فنجان قهوة) راسما ابتسامة مجاملة اوربية او عراقية سبعينية تنفصل تماما عن اجواء هذه المقهى العصرية الذي يتطاير منها دخان الاراكيل وضحكات شباب بدينين يتوزعون في الزوايا المظللة او المظلمة متلاصقين مع اجساد فتيات بدينات بعمل صناعي طبي متقن ومقزز!!

هذا الطلب قوبل سريعا بابتسامة سخرية مصحوبة بضحكة مكتومة لم يدرك سرها.

قال في نفسه هل امسى فنجان القهوة من ضمن قائمة المنسيات او المنقرضات؟ عاود الطلب باصرار مبالغ ونبرة استهجان لهذه الضحكة الهجينة والاستخفافية (نعم فنجان قهوة، شنو حرام لو ممنوع)

جاء الجواب من عاملة اخرى أكبر حجما وعمرا، بل وتورما في كل شيء.

(لا عيني حجي انت تدلل، بس احنا ما نقدم بس جاي و نركيلة، واذا اتشرفنا بالليل نقدملك اشياء احلى!؟ )

صاحبة هذه الدعوة يبدو انها كانت مسؤولة هذا الموقع المريب الذي يعلن عن نفسه على انه مقهى، وصاحبتنا تسمرت امامه، هو الأستاذ القادم من كوكب اخر في توليفة مشهد درامي بين الرثاثة والتعقل الانيق..

لا جواب عنده، هو الذي ادرك سريعا انه في المكان الخطأ لبلاد تستغيث من حجم الاورام والانتفاخ والارداف والشفايف المصطنعة.

اطال التحديق في دخان كافتريا النساء البدينات والتقط هاتفه متصلا بصديق او منقذ.

ويبدو أنه كان أول من يفكر به، وقد اتاه مسرعاً بسيارته واستمع اليه باحترام واهتمام اليه والى  ونينه كذلك، فيما تقافزت منه علامات التعجب والاستفهام، ليطلب بشكل هستيري:

(اريد حمام شعبي)

(شنوو)

(نعم أريد ان اغتسل.. اغتسل.. اغتسل من كلشي)

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*وكيل وزارة الثقافة العراقية.

عرض مقالات: