اخر الاخبار

أسومة

رفضت أسومة، ربما لسنيها الثمانين، أن تغادر بيتها، في محلة (خزرج)، والذهاب مع ابنها أحمد وعائلته، إلى منطقة آمنة خارج المدينة، وهي ترى كجارتها العجوز فطومة، أن من يترك داره يقل مقداره.

وحين انتهى الاقتتال في المدينة، ولحق بالجانب القديم منها دمار شامل، فوجىء أحمد بالخراب الذي لحق بحيهم، ووقف أمام دارهم، الذي غدا كومة من الحجارة، أين أمه؟ أين أسومة؟

وجاءه صوت يعرفه جيداً: بنيّ..

التفت، إنها هي جارتهم فطومة، وأسرع إليها، وقال: أخبريني، أين أمي.

وابتسمت فطومة كعادتها، وقالت: رأيتها تخرج مع مجموعة من العوائل، ومعهم أطفال وشيوخ، والقتال كان ما يزال مستمراً.

هزّ رأسه، وقال كمن يحدث نفسه: أعرف أين أجد أمي أسومة، إنها حيث يحتاجها الآخرون، هذا إذا لم تكن قد قتلت. 

القطة

خرجتْ من البيت، بعد أن أغلقت باب الغرفة على قطتها، فهي تخشى أن تصعد إلى السطح، بحثاً عما تأكله، فيراها قناص، ويرديها قتيلة.

وعند مدخل الزقاق، وقع نظرها على شابين ملتحيين، يرتديان الليل، ومع كلّ منهما رشاشة، ورأت أحدهما يقضم رغيف خبز، فاقتربت منه، وقالت بنبرة متوسلة: لله، لديّ يتيمة.

حدق فيها المسلح صامتاً، وهو يلوك لقمته، وضحك المسلح الثاني، وقال: لا تصدقها، إنها امرأة عجوز، من أين لها يتيمة؟

وابتسم المسلح الأول، وقال لها: أقسمي أن لكِ يتيمة، وسأعطيك نصف الرغيف.

وحدقت العجوز فيه مترددة، ثم قالت: والله، لديّ يتيمة، وهي جائعة جداً.

وأخذت العجوز نصف الرغيف، طارت به إلى البيت، قدمته لقطتها، وهي تقول: كلي، يا يتيمتي، كلي لعلكِ تشبعين.

الطير الأخير

بعد أن تقدم به العمر، وغدا وحيداً في البيت، اقتنى طائرين، ذكراً وأنثى، وعندما اشتد القتال داخل المدينة، واشتد معه الحصار، وشحت المواد الغذائية إلى درجة كبيرة، كان يقتطع من طعامه، ويقدمه للطائرين، حتى نفد الطعام في بيته تماماً.

ماتت الأنثى يوم أمس، لا عجب، فأنثاه ـ زوجته ماتت قبله هي الأخرى، وتركته وحيداً، خاصة أنهما لم ينجبا في حياتهما  أي طفل.

وخمد الذكر في القفص، من يدري، قد يموت قريباً هو الآخر، ورغم تعلقه بهذا الطير، إلا أنه فتح له باب القفص، وأطلقه قائلاً: اذهب، وعش حياتك، يا صاحبي.

وحلق الذكر قريباً من أسطح الدور، وحام مرات حوله فوق السطح ، وهو يتابعه بعينين جامدتين، ثم اتجه مبتعداً عن أنقاض البيوت، التي خربها الاقتتال، وقبل أن ينزل من السطح، سمع اطلاقة من مكان قريب، وانتفض قلبه، لابدّ أنه الذكر، وعاد إلى السطح، وبحث عن الذكر، لكنه لم يعثر له على أثر.    

شقاء

منذ أيام، وهي تتسلل من خرابة إلى خرابة، متسترة بعتمة الليل، هي والجنين الذي في بطنها، والقنابل والصواريخ وأزيز الرصاص، لا يكاد يتوقف.

وتوقفت هي، هذه الليلة، مع حماتها العجوز، بعد أن فقدت زوجها، قبل أيام، برصاصة قناص قلما يخطىء ضحيته، جاء من وراء البحار.

توقفت لا لأنها وجدت سرداباً قديماً آمناً، في إحدى الخرابات، وإنما لأن جنينها “ العاقل “ اختار أن يفد هذه الليلة إلى العالم.

ووفد الجنين، وكان كما تمناه أبوه الراحل، ذكرا جميلاً، فأخذته الحماة العجوز بين يديه، ونظرت إلى وجهه الجميل، وقالت: لنسمه على اسم جده.. محمود.

فتمتمت الأم بصوت واهن، قبل أن تغمض عينيها، وتنطفىء: لا.. ليكن اسمه.. شقاء.

بدرية

الجمال رزق، وأي رزق، هذا ما كانت تقوله جدتي دائماً، وأعترف.. أنا لست قمراً، وأبوها نفسه لا علاقة له بالقمر، وأما طفلتنا، وهذا رزق، جاءت كالقمر، وعلى هذا أسميناها.. بدرية.

وكقمر السماء، راحت بدرية تكبر يوماً بعد يوم، وكبر معها جسمها وجمالها وألقها، شيء واحد لم يكبر فيها، ويبدو أنه لن يكبر، صارت بدراً، لكن عقلها ظلّ يراوح في المحاق.

ومع وقوع المدينة في الظلام، وحلّ في أرجائها رجال الظلام، وشعّ نورها أكثر وأكثر، فصاحوا بي شيباً وشباباً، ولأسباب شتى متعارضة: حجبيها.

حجبتها، لففتها بغمامات قاتمة كالدخان، لكنها ظلت بدراً، يشع نوراً باهراً، وسط الغمام، وذات يوم، جاءتنا امرأة منهم، وقالت لي: الأمير يريدها.

شهقتُ، هذا ما كنت أتوقعه وأخافه، فقلتُ لها: لكنها.. طفلة.. طفلة صغيرة.. لا تعي.

وكشرت المرأة، وقالت: جسمها.. قمر.

رفضتُ، توعدتني المرأة، إنه الأمير، وذات ليلة، أردت أن أهرب بها من الظلام، لكن رصاصهم انهمر علينا كالمطر، لم أمت، لكني متّ حين علمت أن قمري اختفتْ، وبحثتُ عنها في كلّ مكان، دون جدوى.

عرض مقالات: