اخر الاخبار

علّلت لجنة نوبل اختيارها الروائية والكاتبة الفرنسية آني إرنو ومنحها جائزة نوبل للآداب لعام 2022 بما أظهرته من «شجاعة وبراعة» في «اكتشاف الجذور والبُعد والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية»،  وبما «تستشكف باستمرار، ومن زوايا مختلفة، حياة تتسم بتباينات قوية فيما يتعلق بالجنس واللغة والطبقة».

وقد عُرفت إرنو بميولها اليسارية ومعاداتها للعنصرية في فرنسا، ووقعت، في شهر آيار 2018 عريضةً، بالتعاون مع شخصيات من عالم الثقافة، لمقاطعة موسم الثقافات بين فرنسا وإسرائيل، والذي يُعدّ، وفقًا للعريضة، بمنزلة واجهة لإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. وفي عام 2019 شاركت في نداء نُشر في موقع «ميديا بارت» الفرنسي المعروف لمقاطعة تنظيم منافسة «يورو فيجن» في تل أبيب.

وصفت إرنو فوزها بالجائزة بأنه «شرف كبير»، وكذلك «مسؤولية كبيرة» أُعطيت لها للشهادة من أجل «الإنصاف والعدالة»، وأعتبرت أن فوزها مسؤولية كبيرة، وشكل من أشكال الإنصاف والعدالة فيما يتعلق بالعالم. يقول عنها الشاعر والمترجم اللبناني اسكندر حبش، الذي ترجم لها رواية «الاحتلال»، «دون أدنى شك، تبدو آني إرنو اليوم، واحدة من أكثر الروائيات الفرنسيات حضورا وأكثرهن شهرةً على الساحة الأدبية الفرنسية المعاصرة، فكل كتاب من كتبها، لا بدّ وأن يسيل الكثير من الحبر والمتابعات الصحافية والنقد. ربما يعود ذلك إلى موضوعاتها التي تتقاطع مع سيرتها الذاتية».

نشرت إرنو عام 1984 رواية قصيرة (نوفيلا) «الساحة»، استدعت فيها صعودها الاجتماعي الذي جعلها تبتعد عن أهلها. وجاءت لتشكل العمل المفتاح، لما عرف في ما بعد باسم تيّار «التخييل الذاتي»، وقد ترجمت إلى العديد من لغات العالم، وحازت على جائزة «رونودو».

بدءاً من تلك الرواية، بدأت كتابة «المينيمالية» التي تسبر أغوار الحميمي، عبر شكل الرواية السيرالذاتية أو عبر شكل «اليوميات»، إذ تخلت عن كتابة القصة المتخيلة التقليدية لتركز على الرواية المستمدة أحداثها من سيرتها، حيث تتقاطع فيها التجربة التاريخية مع التجربة الفردية.

قبل أيام انتهيت من قراءة روايتها القصيرة الرائعة «الحدث» الصادرة عن دار الجمل بترجمة سحر ستّالة، ولها ترجمة ثانية قامت بها هدى حسين وصدرت عن دار ميريت، وقبلها قرأت روايتها «الاحتلال»، الصادرة عن دار الجمل أيضاً بترجمة اسكندر حبش.

تشكّل الروايتان جزءاً من مشروعها الروائي الذي تعمل عليه منذ بداياتها، ويقوم، حسبما يقول حبش، على تقديم تفصيل عادي من تفاصيل الحياة التي نمر بها، والتي تُعدّ جزءاً منها (عملية إجهاض، علاقة شغف كبير، موت الأب...)، إلا أنها تفاصيل واسمة، ربما لأنها في النهاية تشكّل مرجعاً ما في سلم الوجود. لحظات هي من دون شك التي تؤسس جوهر الحياة الكبير. لذلك تبدو رواياتها، كأنها لعبة «بازل»، حيث تظهر كل واحدة منها قطعةً منفردةً، لكن إن جمعناها معاً ظهرت أمامنا الصورة (أو اللوحة) بشكل متكامل.

ويضيف حبش أن ثمة خاصيةً أخرى تتمتع بها إرنو وهو أسلوبها، الذي يرى بعضهم أنه أشبه بأسلوب «اليوميات الحميمة»، أي أسلوب من دون تزاويق أو ادعاءات. من هنا هذه المهارة في أن تجعلنا نعتقد كأن ما تكتبه من كتاب إلى آخر ليس سوى يومياتها الحقيقية، ومن غير أي تبديل أو تعديل. ومن كتاب إلى آخر تنجح إرنو في بناء عملها الأدبي، الذي يذهب مباشرةً إلى الأساسي، إلى الجواني والداخلي، إلى الحميمي، من غير أي تعقيدات أو التفافات. يذهب عبر هذه الكثافة التي تفتح، في الوقت عينه، حقولا متعددة للقراءة الخاصة أمام القارئ».

تتعمق روايتها «الاحتلال» في موضوعة «الغيرة»، التي تنسج حولها قصة جميلة. ذات يوم، تعلم بطلتها أن عشيقها السابق، الذي كانت قد غادرته هي، رافضةً أن تستمر في العيش معه، بعد أن طردته من حياتها، لأنها ترفض بشكل مطلق الحياة التقليدية بين زوجين، قد اتخذ لنفسه صديقةً جديدةً. من هذا الخبر تنشأ في نفسها غيرة قاتلة تجتاح كل شيء، إلى درجة أنها لم تعد تحتمل الألم الفظيع الذي يلفها، ولا يدعها تفكر في أي شيء آخر، فتعلن أنها أصبحت «محتلةً» من طرف منافستها وغريمتها التي تؤرقها طيلة لحظات نهارها (وربما ليلها أيضا). ومن هذا الأرق، تكتب إرنو «موتيفات» الهوس والفقدان وعذاب العشق.

اعتمدت إرنو في كتابة الرواية تقنيةً بسيطةً هي تقنية الاعتراف، أو السيرة. ويبدو الاعتراف كأنّه تنفيس عن حالة لا يمكن الفكاك منها هي «الاحتلال» الذي تقوم به غريمتها تجاهها، بحيث تتحكم الغيرة بعقلها تماماً، وتسلبها كلّ منطقها وتفكيرها. وهكذا، تبذل أقصى جهدها لمعرفة كل شيء عن غريمتها، وحياتها وشخصيتها، بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة.

وتتناول في رواية «الحدث» موضوع تجريم عملية الإجهاض بالنسبة للمرأة والطبيب فى مجتمع لا يدين إلا المرأة فقط، وتوابعه مثل قتل المرأة أو دفعها لثمن الحمل إذا لم تكن متزوجةً، إذ تصف فى الرواية المشاعر المختلطة التي تنتاب المرأة في مجتمع يضطرها إلى أن تقتل طفلها، وكيف لا يساوى بينها وبين المتسبب فى هذا الحمل. الحدث يقع في ستينات القرن الماضي، وحينها كان تعريض النساء أنفسهن لهذا الامتحان محفوفاً بمخاطر كثيرة، ليس أولها النص القانوني الذي يعاقب بالسجن وبغرامة مالية. وقد أثبتت الكاتبة ذلك النص بحرفيته منقولا عن «الموسوعة العالمية الجديدة- لاروس»، لكنها مع ذلك لم تكن لتهجس بمفاعيله. كما لم يكن الخوف من وقوع الخبر على الأهل هاجساً ملحاً أيضا، طالما أنها في زياراتها لهم تستطيع أن تخفي العوارض التي تتأتى عن الحمل، أو تُظهر أمام والدتها، بالحيلة، أن عادتها الشهرية لم تنقطع. ولم تتحرجّ من أن يعلم زملاؤها وزميلاتها في الجامعة بسعيها لأن تُجهض، ففي فرنسا الستينات كانت معانَدة القوانين والأعراف من علامات تشكّل الشخصية. كما أن الجهر بانتماء المرء إلى طبقة اجتماعية دنيا، كان أيضاً دليلاً على الانخراط في الزمن الجديد.

عرض مقالات: