1-  البياض الذي نبح

لا اعرف ما الذي حدث و أيقظنا من نومنا بهذا الهلع الشديد في تلك الليلة؟

 أبي كان أكثر العائلة هياجا ، عيناه تلمعان بخبث احمر،  حين مر بقربي متجها الى الفناء خلته سيقطع عنقي، فقد شممت رائحة القتل تتسرب من سرواله. راح الى مخدعها وفيما أدرك إنها ليست فيه ، عمد إلى جرائها الذين ولدتهم في غضون الأسبوع الفائت ،  كان ماهرا وسريعا في ان يقطع الحياة عن تلك الكائنات الغضة البريئة ، كيف ولماذا ؟ ذلك لا أعرف عنه المزيد ، فقط رأيته قد رمى بكوم اللحم الطري الملون الى برميل القمامة ،  وآب الى سريره ليغط في نوم عميق.

عادت الكلبة، فلم تجد صغارها نياما كما تركتهم في المحل ، استشاطت الى الجهات كافة ،عوت ، ولولت ، وتوسلت ، شمت رائحة الموت تأتيها من البرميل فأفرطت بالجنون والحزن ، فجعت حقا بمصير فلذات كبدها .

 تواريت من خجلي عنها أسبوعا، قابلتها بعد شهر في الحديقة ، تحاشيت النظر الى عينيها ، و اكتفيت في الأيام القادمة بمراقبتها عن بعد ، كانت حزينة في كل سلوك وقد أسرها حداد دائم ، قرأت فيها إمارات الرثاء والنعي ،  في حركاتها ،المشي ، والاضطجاع، والانكسار في النباح، وقلة النوم التي صاحبتها، كانت ترسل ألفاظاً جسدية مليئة بالدلالات ، الا ان ذلك عصي على الفهم بالنسبة لذكور الكلاب الذين يقتربون منها لقضاء حاجتهم معها ، فكانت تسرح كتفها الأيمن إلى الأمام حتى يصل الارض ، او ترفع ذيلها كالقوس، او ، او ما شاءت من حركات التعبير عن لا معنى المواقعة في مثل هذا البيت الذي يملكه جزار كأبي..!

أدركت  بالتجربة بأنه لا يمكن حفظ النوع في بيئة غادرة ، لكن غرائز الذكور المستعرة وطبيعة الحيوان التي فيهم لم تدلهم على الفهم.

الأمر أنها حملت ثانية ، ولما أحست حقا بحملها  الجديد صارت تعوي عواء يفطر القلب، ما جعل أمي تمرض من كثرة البكاء المصاحب لذلك .

 و إذ أحست بدنو الوضع ، تسلقت ذات ليلة الى شباك غرفة ابي من خارج و أحدثت حركة كمن ينقر على الزجاج ، نهض أبي وحدثنا صباحا:  (ولما سمعت النقر على الشباك رنوت الى مصدر الصوت رأيت بياضا فضيا وراء الزجاج يرفع لي صورة فوتوغرافية لأربعة صغار ذبحوا من الوريد ، فتقدمت منه لاستبين الرشد ، فطار بجناحين كبيرين ، فسارعت الى الحديقة فوجدت الكلبة جثة هامدة أسفل الشباك).

2-  بخور هندي

في دفتر الحلم السري، وجد الهندي الأحمر في الصفحة عشرين خاصرة مثقوبة بنبل مسموم، قلّب الصفحة ، لم يقرأ ، مشى لعين الماء، توضأ، وأستنفذ ضياء النهار بصلاة ومناجاة خافتة،  لم يبق نور يستبين فيه حروف  الصفحة، مسح على النجمة حتى تتلألأ في عينيه، ربط عنان الضوء بعروة قلب مثقوب واتكأ على قوس العزة ونام  كذئب. أصلح من وضع القوس وعلقه بمهابة تاريخ الألم، وجلال الوصايا في أعلى وسط المنحت، تماما فوق منحوتة أيل الوادي الأعز إلى قلبه من بين طرائده الألف.         

 في الصفحة (11) وجد الهندي الأحمر حروفا تتباعد ما شاءت مفرطة في تغيير مواقعها، فأجاب بهزة رأس مثقلة بالفهم، مشى، أنزل قوس التاريخ وركزه في الوسط، وعاين تناسب مرماه مع الشمس، عبأ في نفسه ما شاء من الرضا والارتياح، وتناهىت إلى  حاسة شمه رائحة بخور من جدث الكينونة، بالغ في توسيع فتحتي أنفه، وسارت قافلة الطباع المرحة إلى القلب مباشرة .  ركب  حصان مودته، وأمطر حباً على نرجسات البرِّ، ومضى إلى نبع الماء، وتوضأ، وصلى، وضحك كثيراً حين رأى هروب النهار إلى  ما وراء الإقفار العشرة .  استأذن مولاه، وعاد إلى  باحته، وعلق قوسه في محله نفسه، و أغلق دفتره، رماه قرب الموقد ..لم تعد به حاجة أن يكمل قراءاته، أدرك أن لا شيء سيلقاه أكثر مما لقيه في محتوى الصفحتين .. الحياة ومنذ الأزل لم تخلق ثالثاً للظلمة والنور .. للنهار والليل .. كذلك لم تخلق ثالثا للحرب والسلام   وإلى جميع الأضداد الثنائية..

عرض مقالات: