الزمن..!

أعلنت الساعة الحائطية في عويل متصل، أن الزمان هو الساعة الأُولى تماماً، من يوم الجمعة في العام 2720*. وها هو الكاتب محمد المهدي ــ أو المِعماري الأكبر في مدينة اليشن كما سمّاه أحد نقاد الشعر، يجلس على كرسيه الوثير، في منتصف صالة شقته الواقعة في الدور الخامس عشر من مجمع “نادي الصحافة الوطنية” المطلّ على النهر المقدس،وهو في الحقيقة المبنى الأكثر أناقة وفخامة في الضاحية الشرقية من المدينة.

اليوم..!

وعندما أعلنت الساعة العاشرة عن نفسها في شقة المهدي، كان المهدي يجلس على كرسيّه الوثير، بينما أخذ المدعوون يفدون إلى دارته لتهنئته باستكمال سنواته الثمانين، كان هناك الشاعر المعروف أحمد الهواجري الذي انحنى على المهدي وقبّله في جبهته بصمت، فقال المهدي: انه الزمن يا أبا دجلة، ماذا يريد منا هذا العدوّ الذي يجب علينا مصادقته ؟ لم يسمع الهواجري تعليق المهدي لأن المهنئين، وقد كانوا بالعشرات ــ اللحظة، أحدثوا همساً عالياً، عندما شاهدوا رئيس المجلس التنفيذي في ادارة“أليشن“يدخل القاعة بملابس مدنية على غير عادته في السنوات العشر الأخيرة. اقترب الرئيس محمود البزّاز من مجلس محمد المهدي الذي بقي في مجلسه، ومدّ نحوه يده اليمنى مصافحاً. قال الرئيس: عمراً مديداً يا أستاذ محمود، اننا فخورون بك. قال محمد المهدي وهو ما يزال في مجلسه: من هو الأحمق الذي دعا هذا المخلوق ؟. كان المهدي يتحدث إلى نفسه. وأحس أنه غير مرتاح، ربما للصمت الذي ساد الصالة، الصمت الذي لم يكن يخدش ثقله إلا حركة النُدُل بين مائدة وأُخرى.

الساعة..!

كان الجميع صامتين، وكان محمد المهدي يسمع حركة عقرب دقائق الساعة التي وضعت في أعلى الجدار الأيمن في صالة شقته، وتحت الساعة مباشرة، شاهد المهدي عشرات الأجساد، بملابس رسمية، تحتك ببعضها في المرآة الكبيرة التي تغطي الجدار بأكمله. قال لنفسه: المرآة تفضح الوقت أحياناً. أخرج منديلاً ورقيّاً من جيب سترته الأيمن وتمخط. انتبه الجميع، حتى رئيس الوزراء، بينما كان الهواجري يجلس منتبذاً زاوية شرقية. أشعل المهدي لفافة تبغ واستمر يعاين المدعوّين في المرآة.

النهار..!

كانت الساعة هي الحادية عشرة، عندما دخلت الى الصالة مديرة دار الأزياء الوطنية السيدة ثُريّا الزفراني، مخترقة حشد المدعوين، ثم توقفت عند كرسي المهدي. قام المهدي من كرسيّه وأمسك بكفها اليمنى التي كانت ممدودة إليه. أمسك بها بأصابع كفّه اليمنى وقال: شكراً لمجيئك. ثم عاد إلى كرسيّه. كانت ثريّا ـــ أو مايا كما نعتها شاعر البلاط  الهواجري، في حوالي السنة الأربعين، لم تتزوج بعد لكن هذا المحفل تعوّد على مخاطبتها بالسيدة، وكان المهدي يرى فيها شيئاً من جمال امرأة أرملة.

الوقت..!

أخذ المدعوون أماكنهم على الأرائك الوثيرة بألوانها كما لو انها قوس قزح، وبعضهم كانوا يتجاذبون أطراف الحديث وقوفاً. اقتربت الساعة الآن من الثانية عشرة إلا دقائق، وكان المهدي ما يزال ينظر إلى بوابة الصالة. قال في نفسه: ستأتي.. أكيد أنها ستأتي، وفي هذه اللحظة دخلت السيدة نُهى البحر متأبطة ذراع زوجها الأستاذ بكلية الصيدلة الدكتور أسعد جوزيف. رأى المهدي إلى السيدة نُهى، ثم إلى زوجها الذي جاوز الخمسين. قالت السيدة نُهى بأدب جَمّ: لا مفر، يا أستاذ، لا مفر أبداً، فرآها محمد المهدي مثل احدى لوحات أنجلو، وقال لنفسه: كانت ستكون جميلة لولا هذه المُعالنة التي تفضح قلبها. جلست السيدة نُهى متربعة على الأرض،وسط اندهاش المدعوين بمن فيهم زوجها، وطفقت تبكي. انحنى المهدي على عنقها:

ـــ“لا عليك، أيتها الأخت، انه الزمن”.

الدهر..!

اشعل المهدي لفافة تبغ ثانية ورأى إلى سمته في المرآة في فسحة كافية من المرآة التي انزاح عنها كثير من المدعوين: ها هو بعد أقل من ساعة سيغادر عامه الثمانين، لم يكن يريد تحويل هذا الشأن الشخصي إلى حالة عامة. لكنه فوجئ بوزير الثقافة في حكومة أليشن يهاتفه قبل يومين: لك العمر المديد يا أستاذنا، لقد قررنا أن نجعل من بلوغك الثمانين عيداً وطنياً بمدينتنا. أغلق المهدي خط الهاتف بهدوء دون أن يرد بكلمة على وزير الثقافة. وكان محمد المهدي، في تلك الآونة، يدخن ويتفرس في قلبه فقط.

الساعة..!

انتهى يوم الخميس عندما تطابق عقربا الساعات والدقائق على الرقم 12 وسط صمت جميع المدعوين. كان المهدي يشعر أنه وحيد ومهجور مثل نهر ميّت بقرية الكحلاء، وكان ينتظر مقدم جميلة فقط ليحس بالبهجة والعمران. حاول أن ينهض من كرسيّه إلا أن صوت رئيس المجلس التنفيذي أخَّره قليلاً. كان الرئيس يخطب: اسمحوا  لي أيتها السيدات،أيها السادة، أن أهنىء باسمكم جميعاً أديبنا الكبير الأستاذ محمد المهدي لمناسبة تجاوزه سن الثمانين الآن، وبهذه المناسبة يسرني ابلاغكم بأن صاحب السمو أمير البلاد، أمر باهداء كاتبنا الكبير سيارة فخمة وبيتاً ريفياً، كما أمر سموه باصدار طابع وطني يحمل صورة الأستاذ محمد المهدي.

صفق الجميع بحرارة، فيما نهض محمد المهدي من كرسيه.

العصر..!

سار المهدي متمهلاً وبطيئاً حتى وقف عند بوابة صالة شقته دون أن ينبس بحرف واحد. عرف الجميع أنه يريد توديعهم، فانصرفوا، واحداً واحداً، يشدّون على كفّيه ويتمنون له العمر المديد. كان الهواجري آخر المودعين المغادرين، أما السيدة نُهى البحر، فقد استمرت جالسة على الأرض، شبه باكية بينما غادر زوجها الصالة خشية من القيل والقال.

الفجر..!

جلس المهدي على كرسيه وسط الصالة، بينما كانت السيدة نهى البحر ما تزال تنتحب. أخذ المهدي عنقها إلى ركبتيه وهمس لها: شكراً لمجيئك، ما كان ينبغي لك أن تتعبي نفسك. نظرت إليه بعينين دامعتين وقالت:

ــ“أُخمّن أنك تنتظر جميلة”.

قال محمد المهدي كأنه يقرر حقيقة خالدة: نعم.

قامت السيدة نهى البحر، وقام السيد المهدي ورافقها حتى بوابة الصالة، ثم عاد إلى مجلسه.

الزمن..!

... وها هو محمد المهدي، فوق كرسيه، وحيداً ومهجوراً، يترقب دخول جميلة الى صالة شقته. كان قد التقى بها قبل خمسين سنة في“غاليري تاجريان“عندما كان جواد سليم يعرض بعض منحوتاته. كان كلاهما في حوالي العشرين. لم يجد مشقة تذكر في الانجذاب إليها، ولم تجد هي صعوبة في الاقتراب منه. وبعدما خرجا من الغاليري وتناولا فنجانين من الشاي في“مقهى مجيد“ودعته على عجل. وبينما كانت تجتاز شارع الكفاح دهستها سيارة مسرعة وماتت من فورها.

ومنذ ذلك الوقت وهو يكتب إليها عندما يحلّ المساء. لم يملّ من كتابة الرسائل والمذكرات. وكان يقول: ستأتي في مساءٍ ما وتجلس إليّ. والآن بينما هو في الدقائق الأولى من اليوم الأول، في السنة الأولى بعد سنته الثمانين، ها هو محمد المهدي ينتظر قدوم جميلة إليه. انه الوقت هذا الحزام الذي يربط القلب إلى قلب آخر، والذي يفرق قلباً عن قلب آخر.

فجأة سمع المهدي هفهفة ثياب تدور في صالة شقته، ثم إستروح عطرا ناعماً، فاستراح إلى مسند كرسيه، بينما أخذ يردد مع نفسه: جميلة!، ايتها الجميلة كان ربّ الخلق على حق عندما خلقك على عينيه.

عندما عاد الرجل الى وعيه بعد نوم طويل، عرف ان أحلامه هي حياته، وما عداها سوى صوت وقوع حصاة على سطح نهر ميت.

ـــــــــــــــــــ

*التلاعب في التواريخ مقصود من قبل القاص.

عرض مقالات: