اخر الاخبار

بدءاً من المنحى الاستفزازي للعنوان واستهلالات النصوص تضعنا المجموعة الشعرية (تُغير الاسماك رأيها على اليابسة) للشاعر حسين المخزومي الصادر عن دار الرافدين، بيروت، 2021. إزاء تجربة شعرية تثير الكثير من التساؤلات وتلفت الانتباه لحيازتها شكلاً من أشكال المغامرة الجمالية وما تنطوي عليه من استلهام المفارقة الوجودية وتشظياتها وقدرتها على الانفتاح على مساحة من الدهشة والتأويل والإيحاء.

ويتمركز الخطاب الشعري في تجربة حسين المخزومي على المفارقة ورصد التناقضات وتوتر اللحظة الشعرية الملتبسة واللجوء إلى الإشعارات الحادة وتأسيس منطق مغاير للنظر إلى حركة الحياة وصراعاتها المكتظة بالوجع والقلق وأحياناً العدمية:

أريد أن أعيد كل المشاهد السعيدة في حياتي

بالحركة البطيئة

وأمعن في مشاهدتها كيف مرت؟

نجد هذا الولع في توظيف المفارقة وإعادة النظر في ظواهر الحياة والمواقف على وفق معالجة جمالية تعيد إنتاج الفكرة بتغير زاوية النظر وانتاج فكرة جديدة لأحداث تقليدية عابرة كما في نص (الهايكو) (موجة):

الموجة التي تصل الشاطئ

تحاول انقاذ نفسها من الغرق...

×   ×   ×

وفي نص (غابة):

أنا شجرة واحدة فقط

لأني مشيت إليكِ

صرت غابة

×   ×   ×

تحفل المجموعة بتوظيف اللغة الشعرية واستثمار مستوياتها التعبيرية وتعميق روح المفارقة في النسق اللفظي وابتكار الصور الغرائبية وسيريالية التوصيف وإشاعة السخرية الممزوجة بالرثاء نجد مثل هذا الإشتغال في نص (حياة أضيق من حذاء)!:

كان الحذاء ضيّقاً

وحازماً كرأي

قال لي الإسكافي

إنه سيتسع بالمشي مع الوقت

ضحكت على كلماته الجاهزة

لم أعد أصدّق هذه الفكرة

فبيتنا لم يتسع من صراخ أبي المتكرر

فلا أدري إن كان قبري

سيكون على مقاس جسدي

بما يكفي..

ونجد في النص براعة الصور الشعرية المشاكسة وتوظيف اللحظة الملتبسة العابرة وتفكيكها باتجاه المعنى المفارقاتي الجديد، ونجد كذلك العناية القصدية في ختام كل نص أو ما يسمى بلحظة التنوير أو الضربة النهاية، كما في نص (طرق متأخرة):

إن تأخرت أنا...

انتظري الطريق

الطرق أيضاً تصل متأخرة..

هنا التركيز على وجود الماء بوصفه دالاً للتطهير والبحث عن الوجود المثالي وإدانة القبح والكثير من نصوص المجموعة يرد فيها ذكر الماء والأنهار والمطر ويكتسب الماء شكلاً من أشكال الترميز كما في نص (العوم في الحب برأي سمكة):

تحدثه عن روعة المطر وهي تحت مظلة

ويبقى وحده مبلّلاً.

وإلى جانب التعمق الرمزي بعنصر الماء نجد انتباهات الرؤية الشعرية تركز على ماهية الزمن وتجلياته ورمزيته وأغلب النصوص تستعير معنى الزمن وتشتغل عليه بوصفه ظاهرة تؤطر الأحداث وتمثل الخلفية الفلسفية لمعنى الوجود كما في نص (ما أنفقه الوقت)

وفي نص (حيوات كثيرة بثوب واحد):

ستكبرين يوماً

لن يبقى الوقت في ساعتنا صبياً

×   ×   ×

ويوظف النظرة على وفق الخيال العلمي للزمن في قصيدة (بحث اركيولوجي في عظام القصيدة):

بعد آلاف الأعوام

بينما هم ينقبون عن الهواتف النقالة

كقطع أثرية ثمينة

يجدون هذا الهاتف تحت اكداس من التراب.

ومن التنويعات الجمالية ومحمولاتها نجد عدداً من النصوص القصيرة المختزلة أو ما يسمى بالومضة وهي تشبه قصائد أو مقطعات (الهايكو) الياباني وقد برع فيها وكانت التقاطات صورية تثير الدهشة والمتعة ووسمت بعنوان عام هو (نيابة عن المسنين). ففي نص (صياد) يقول:

السهم الذي لم يصب الفريسة

يُصيب قلب الصياد..

وفي نص (ثمالة):

صديقي الثمل منذ عشرة أيام

لا تخرج

الصحو في الخارج مرعب جداً

وفي (مبادلة):

تنازلوا عن أعماركم للشهداء

بادلوهم الأدوار.

حين تشعرون أنكم لا تتقنون الحياة.

×   ×   ×

وتحفل نصوص أخرى تصوّر قبح الحروب كما في نص (بوصلة معطلة):

بعد الرصاصة

كلانا لا يعرف اين يذهب

أنا والدماء الخارجة من جسدي.

وحفلت المجموعة بتجربة غريبة حين اشترك الشاعران حسين المخزومي والشاعر عدي السراي بكتابة نص شعري مشترك بعنوان (طفل الإشارة) :

أيها الطفل

هل اتخذت عمود الكهرباء مظلة

تحتمي بها حين يهطل الظلام

أم تراك جلست على ضفاف الشارع

لتتجنب الغرق في أمواج العابرين؟!.

وثمة ظاهرة إشارية وقصدية وظفها الشاعر حين استعار الكثير من مصطلحات الحياة اليومية والاسماء التي تتردد كثيراً:

مثل (سلو مشن/ انتشتاين/ رولان بارت وهمنغواي/ الهاتف النقال/... الخ.

وكان نص (عاجل لم يكن كذلك) فإنه نص مكتنز بالصور والعمق وبتجسيد الخراب اليومي وهوس الانفجارات والتقاط ما هو مأساوي ويومي:

جثث تتراكم

بعربات الباعة المتجولين

وسيارات الإسعاف

تنقل شظايا القنبلة إلى المشرحة!

عباءة مبللة بلون الليل

تغطي أجساداً

ولدت عارية من رحم المهزلة

رجل يبحث عن ساقه

بعد الانفجار بخطوة

طفل غفا على صدر امه

صحا فجأة في الجنة!

قصائد المخزومي تمثل توجهاً جديداً في معالجة الثيمات الشعرية والخوض في الإبتكار على مستوى المحمولات الجمالية والتوغل في أسارير الواقع والمواقف وتناقضات المفارقة المأساوية التي تكفن عالم اليوم المفخخ بالقلق والعدمية وغياب المعنى وكان من بين توهج المعالجة تلك اللغة غير القاموسية والمتمردة في التوصيف والترميز واستطاعت النصوص أن تحلق بعيداً باتجاه التأويل والتأمل المعرفي ورسم الصور الشعرية المؤثرة، فحسين المخزومي شاعر واعد يملك أدوات الشعر وقدراته الإبداعية في تطور حتمي.

 

عرض مقالات: