اخر الاخبار

 محمد حيّاوي / المغرب ـــ خاصما زلتُ مريضًا يا أنطوشا. مذ تركت ذلك السطح المتقشف الذي كنت اقرأ فيه أعمالك العظيمة وهاجرت إلى بلاد الغرب.

ما تزال روحي هائمة تدور في الفراغ مثل حشد من العصافير أجتُثت الشجرة العملاقة التي كانت تحتضن أعشاشها، فصارت تحوم خافقة باجنحتها راسمة شجرة وهمية في الهواء.

لقد أخبرتني ذات قصة يا أنطوشا بأنّ أولغا تركت لك سريرًا نظيفًا وخادمًا مطيعًا وحائطًا أصمًا وذهبت لتصلح أسنانها في سويسرا.

أنا.. لم تترك لي فاطمة مثل ذلك السرير النظيف والخادم المطيع.

لم تترك لي في الحقيقة سوى شوكة كبيرة نابتة في الخاصرة.

لم يعد قلبي يحتمل ذلك البياض الفاقع في المنافي الذي يشبه خواء الروح. ذلك الخواء الذي طالما حدثتُ جيمس(1) وأرنست(2) عنه، بعد أن نصحاني بإعادة قراءة “العم فانيا” و”بستان الكرز”. لكن ما اثلج صدري ونث مياهاً باردةً فوقه، هو حديث تينسي(3) عن رحلتك المعُذِبة إلى مستعمرة العقوبات. تنسي ذلك العجوز الكئيب الذي كان يدلق البيرة السوداء على صدورنا عندما كنا نحتفل بخيبته مع حبيبته الروسية تانيا. أنت تتذكره بالتأكيد، وكأني اتخيلك تبتسم عندما تتذكر قلنسوته الكبيرة ذات الفراء التي يخفي بواسطتها صلعته العظيمة. وبمناسبة الحديث عن مستعمرة العقوبات، هل تراك اكتشف خفايا النفس البشرية يا أنطوشا؟ هل اخبرك المحكومون بالأشغال الشاقّة هناك، هؤلاء البؤساء، عن سرّها؟ هل كشفوا لك عما كان يجول في نفوسهم ويعذّب أرواحهم؟

كيف احتملت عذابتهم اليومية يا أنطوشا؟ وكيف سولت لك نفسك المرهفة كشف تلك العورات في اعماقهم؟ كيف احتملت القمل الذي يسفي على وسائدهم وأنت المهووس بالنظافة؟

وكيف تجرعت طعم ذلك البقسماط الأسود الذي كانوا يأكلونه؟ كيف تحملت نواحهم حين كانوا يقصون عليك حكايات زوجاتهم الخائنات البعيدات مع جنود القولاغ؟ كيف أصغيت لهسيس الجمر وهو يطقطق في صدورهم التي هشمها التبغ الردئ؟ وكيف تمكنت من رصد خيوط الحزن في عيونهم الغائرة في صفحات وجوههم المسخمة وتحت حواجبهم الكثة؟

وهل سكنت صدرك عصيات السلّ القاتل بسبب العيش في تلك المستعمرة الملعونة يا أنطوشا؟

لقد أخبرتني ذات مرّة عن والدك المتعسف وجفاف روحه. أدرك تلك المحنة يا أنطوشا. نعم أدركها تمامًا، لأن والدي كان متعسفًا أيضًا. كان ضابطًا أنكشاريا في الشرطة العارفية، يأخذ الرشى ويخون امانة الرجال بنسائهم المسكينات. كان يستدرجهن لمخدعه ويسلب إرادتهن ويذعنّ لنداءاته، بل أكثر من ذلك يا أنطوشا! كان يهينني أمام رفاقي ويطردني من المنزل في الأيّام الباردة كي أترك الحزب! هل اكشف لك سرًّا يا أنطوشا؟ حسنًا. مرّة داهمني وأنا في لحظة حميمة مع ابنة الجيران، فهربت منه ثلاثة أيّام، ظنًّا منِّي بأنّه سيضربني كعادته، لكنّه في اليوم الرابع ربّت على كتفي مبتسما ونعتني بالملعون الذي خرج لأبيه! هل تصدّق يا أنطوشا؟ كان يثقل على أختي ويضربها لأتفه الأسباب، وكنت أداوي جراحها وأطيّب نفسها المفزوعة وأوفر لها اسباب اللقاء بحبيبها خلسة، فصارت تحبني بشكل لا يصدّق، بالضبط كما كنّ اخواتك يحببنك يا أنطوشا.

مرة كشفت لي أختي، أسمها هند بالمناسبة، ولا علاقة لها بهند بطلة روايتي “خان الشّابندر”(4)، أنت تعرفها، تلك السمراء النحيفة ذات العينين الواسعتين والشفتين الممتلئتين. كشفت لي عن رغبتها باقتناء أحد البلابل. هل تعرف ماذا فعلت يا أنطوشا؟ حسنًا. انت لا تعرف، فأنا لم أخبرك في رسالتي السابقة بتلك القصة. لقد ألبستها بنطالي وقميصي وعقصت شعرها الطويل خلف رأسها واعتمرت قبعة لاعبي الكريكت، فبدت كالأولاد تمامًا، واصطحبتها إلى البستان، حيث علّقنا قفصًا مزدوجًا فيه أنثى على جذع نخلة قريبة وجلسنا نأكل التمر، بعد أن تركنا الباب مواربًا. وما ان بدأت تلك الأنثى تغرد، حتى تجمعت البلابل من الذكور على النخلة المجاورة، قبل أن يتقدّم اكثرها شجاعة ويدخل القفص، فسحبت الخيط واغلقت الباب عليه. لم تتخيّل فرحة هند وقتها يا أنطوشا!

لقد رأيت السعادة تأتلق في عينيها الحوراوتين وقلبها يخفق مثل فراشة، ومن فرط طيبتها، لم تدرك وقتها غواية أنثى البلبل المهولة، فالإناث يتمتعن بغواية ساحقة كما تعرف يا أنطوشا! حتى لو كنّ اخوات.

لقد حكيت لهند وقتها عنك. عندما كانت طالبة في السنة الأولى مسرح، كيف كنت تصيد طائر الحسون وتبيعه في السوق لتشتري بعض التفاح والكستناء لأخواتك، وكانت مهووسة بمسرحية “الأخوات الثلاث”، حتى أنّها اقترحتها على أستاذها كاطروحة للتخرج، لكن الأخير سخر منها، فلهند قوام صغير وجسد ناحل اقرب لقوام طفلة منه إلى فتاة شابّة، على الرغم من السحر الغامض الذي يسيل من عينيها الواسعتين يا أنطوشا، لكن في النهاية اذعن الأستاذ لرغبتها عندما ادرك كم هي مفتونة بك، وجسدت شخصية الأخت الثالثة وأجادت فيها. هل اطلت الحديث عن اختي هند؟ أعتذر يا أنطوشا، فأنا مفتون بها جدًّا وأحبها كثيرًا، وطالما اعتقدت بأنّك مفتون باخواتك أيضًا.

حسنًا. لنتحدث عن ثنائية الموت والحياة التي طالما شغلتني كلما أوغل في قراءتك يا أنطوشا. فقد قلت ذات مرّة، بأنّنا عندما لا نعيش حياةً واقعية، نبدأ في خلق عالم آخر وهمي داخل عقولنا، وأن ذلك العالم افضل من لا شيء في المحصلة. نعم. أؤيدك تمامًا، فما لم نستطع نيله في الواقع علينا تخيله. الخيال مكافأة الفقراء من الرب يا أنطوشا، لينتقموا بها من الأغنياء او يسخروا بواسطتها من الحياة العجفاء عندما يجافيهم الحظّ. عندنا كتاب يدعى ألف ليلة وليلة يا أنطوشا، لا أدري إن كنت قرأته أم لا؟ ربما لم يكن قد تُرجم آنذاك، لكنه قائم على الخيال ويجسد نظرتك تلك بحذافيرها، كما لو كان قد كُتب تحت هديها. كتاب ذو حوادث عجيبة وقصص غريبة، طالما ذكرتني حكاياته بقصصك الرائعة ومعانيها المدهشة. في هذا الكتاب يحضر أحد ملوك الهند هدية لهارون الرشيد عبارة عن بشر بأجنحة عملاقة يغطي أجسادهم الريش في اقفاص عجيبة من الحديد وأيديهم معلقة إلى الأعلى بسلاسل وقيود، يطأطئون روؤسهم حسرة وأسى، لقد ذكرتني تلك التفصيلات بقصتك العظيمة “رسالة إلى جاري العالِم”، كم ضحكنا انا وهند يا أنطوشا عندما قرأنا تلك القصة الطريفة وكم طاف بنا الخيال ونحن نتصور أنفسنا في اقفاص للعرض والفرجة، وكم تامّلنا في معانيها البشرية وعبرها العميقة.

الآن وأنت ميت يا أنطوشا منذ مدّة طويلة، لا أدري فيما إذا كنت قد وجدت راحتك الأبدية وسلام روحك، أو فيما كنت تتأمل ما يحصل معنا بصمت من عليائك وخلودك، نحن الفانون الموغلون بالخطايا والأوهام، كما لو كنا سنخلد إلى الأبد، لولا قولك بأن الموت سيكون ربحًا كبيرًا، فحين سيحل، لم نعد بحاجة للهاث من اجل توفير الطعام والشراب، ولا حاجة بنا لدفع الضرائب أو الجدال مع الآخرين. لله درّك يا أنطوشا، كم أثلجت قلوبنا عندما جعلتنا نتقبل فكرة الموت المخيفة بهذه السهولة. نعم . لقد مرّ الآن اكثر من مائة عام على موتك يا أنطوشا، وما زلت تمكث في قبرك الهادئ بعيدًا عن ضوضائنا نحن الأحياء، متمتعًا بوحدتك وتاملك، وربما ستمكث فعلاً مئات أو آلاف السنين الأخرى كما تنبأت، وربما سننظم إليك قريبًا نحن أيضًا، لنتأمل من ياتي بعدنا من البشر بهدوء وسلام من قبورنا وهم ينشغلون بحياتهم العابثة. نعم بحقّ وكما قلت تمامًا، فأن الفائدة العائدة من الموت لا تقدر بثمن يا أنطوشا. لكنك نسيت حقيقة صغيرة على ما يبدو، فنحن البشر العاديين ستُمحى صورنا بعد مرور أسابيع أو أشهر على موتنا، وشيئًا فشيئًا سنتحول إلى ذكرى بعيدة في قلوب محبينا وأخواتنا، ذكرى تأخذ بالتضاؤل حتى تصبح نقطة آفلة بعيدة. ستُدرس قبورنا بعد أعوام قليلة وستجف آخر باقة ورد سيضعها فاعل خير وتتحول إلى سماد للتربة، لكن الأمر مختلف معك يا أنطوشا، نعم، عليك أن تدرك ذلك لأنّني أصدقك القول، فقد مر قرن وأكثر من الزمان، وسوف تمر وقرون أخرى بالتأكيد، سيمحو الزمن خلالها ذكرى آلاف الأحياء، لكن الأجيال القادمة، تلك التي كنت تحاول إسعادها بواسطة ذلك الحزن الساحر، ستبقى تردد اسمك بعرفان، وبأسى خافت، إن شئت، على مصيرك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

(*) أسم عُرف به انطوان تشيخوف بين اصدقائه وأهله.

(1) جيمس جويس

(2) أرنست همنغواي

(3) تينسي ويليلمز

(4) رواية لكاتب الرسالة 

كُتبت المقالة بمناسبة الذكرى المئوية لأنطوان تشيخوف وتُرجمت إلى الروسية ونُشرت في كتاب Письма к Чехову “رسائل إلى تشيخوف في مئويته” من إعداد الباحث احمد صلاح الدين وترجمة ليونيل سيرجيوف. (صدر في موسكو مطلع العام 2020) 

عرض مقالات: