اخر الاخبار

تمهيد

يشير المفكر صادق جلال العظم على لسان احد الفلاسفة المختصين بدراسة كانط الى ما يلي:

  1. لا نستطيع ان نحدس الاشياء من غير مكان. اي ان جميع الاشياء التي نحدسها موجودة في المكان.1
  2. نستطيع حدس المكان من غير الاشياء.2

امعان التفكير في العبارتين تجعلنا نحصل على نتيجة تداخلية بينهما تقوم على تعبيرين متناقضتين. الفقرة الاولى لا نستطيع ان نحدس الاشياء من غير مكان صحيحة كون الاشياء امتلاء مكاني. ونستطيع حدس المكان من غير الاشياء في الفقرة الثانية خاطئة تناقض ما قبلها.

الخطأ هنا يعتبر المكان شكلا او اطارا لفراغ لا يحتوي مادة. حتى ادراك الشكل مجردا عن محتواه لا يمكن تمريره بسهولة الا في معايير منطقية ميتافيزيقية صرف. المكان الادراكي هو مادة حسية وليس تجريدا تصوريا لفظيا في التعبير عنه فقط. والحدس قابلية عقلية تتعامل مع حقائق منطقية يستلهمها تسبقها ذخيرة معرفية مخزنة بالذاكرة.

كيف نستطيع التعبير عن التناقض في العبارتين في مواءمة لا تعتمد المنطق التجريدي تماما منفردا كما لا تعتمد الحس المادي من غير تجريد تعبير اللغة؟ لو حاولنا تحديد معنى المكان في العبارتين نجده تعبيرا عن (الفراغ) المكاني وليس المقصود بالمكان الوعاء الاحتوائي الممتليء(صورة ومحتوى) بل الفراغ (شكل) مجرد من محتواه المادي. المكان هو وحدة من امتلاء  قابل للحدس او الادراك في ثنائية تلازم صورة (شكل) ومحتوى (مادة). الفراغ بلا مادة هو خلاء مكاني وليس مكانا يدرك بدلالتي المادة المحتواة فيه وملازمة الزمان له ايضا.

لا مجال ان نحدس وجود الاشياء من غير ملازمة مكانية إحتوائية لها. اي لا مجال امامنا حدس الفراغ مجردا عن خاصيته المكانية في الاحتواء المادي. ان تقول مكان يعني انك تقصد امتلاء شيئي محدود. وعندما تقول فراغ انما تقصد شيئا غير موجود ماديا لكن يمكنك تحديده بابعاد ثلاثية هي الشكل بلا محتوى. علما ان الابعاد الثلاثية للفراغ يمكن ان تكون محددات لمحتوى مادي. مثال ذلك ادراك غرفة خالية من اي شيء تحتويه. هنا تكون ابعاد الفراغ بالغرفة حددت لنا ادراك مادة هي الغرفة وليس الابعاد مجردة عن دلالة احتوائية لا تشغلها مادة..

حدس الاشياء يلزم عنه نوع من الادراك الذي يجمع توفر صورة ومحتوى لكل مدرك ذهني. والحدس الذي يتخطى معيار المنطق والحس انما يكون ملزما بثنائية الادراك (الزمان – المكان) التي هي ثنائية تجريدية تقود الحدس الى محاكمة صوابه العقلي. بمعنى العقل هو الذي يحدد معنى الادراك لشيء حقيقي من عدمه لمدرك زائف.

الحدس والادراك

في البدء علينا التسليم ان كلا من الحدس والادراك هما عمليتين تتمان داخل المنظومة العقلية اي داخل سلسلة عضوية مترابطة تبدأ بالحواس ومن ثم مرورا بالجملة العصبية لتنتهي بالدماغ . بمعنى لا حدس بدون العقل ولا ادراك من دون العقل ايضا. كما لا يمكننا القول ان تفسير الانطباعات الحسية عن الواقع الخارجي لا تعتمد الخبرات المخزنة في الذاكرة. قبلية الخبرة هي التي تعطي الادراك حقيقته التصورية. وعملية الادراك الحسي عملية مركبة موثوقة في صدقيتها اكثر من الحدس, حيث تتداخل عملية الادراك مع الشعور النفسي وعمليات التذكر وتداعيات الافكار المخزنة وكذلك الوعي واللغة. وكل هذه المفردات لا تتوفر ولا ملزمة للحدس بمقدار الزاميتها المشروطية الادراك الحسي المادي المباشر. فالادراك هو عملية عقلية- نفسية تساعد الانسان معرفة عالمه الخارجي,والوصول الى معان ودلالات الاشياء وذلك عن طريق تنظيم المثيرات الحسية لتفسيرها وصياغتها في كليّات ذات معنى. اما الحدس فهي قدرة عقلية تخييلية تصل حقائق الاشياء من دون المرور في آلية الإدراك الحسي الطبيعي البايولوجي لها, بل تحصل على المعلومة بضرب من القوى العقلية خارج المالوف في الادراك الحسي بخطفة من الحدس في مباشرته  العقل ومباغتته ادراكيا.

وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين الحدس والادراك ليس من حيث الآلية فقط بل من حيث التصور التمثلي للاشياء تصورا حقيقيا صحيحا فلا بد ان يتوفر العقل على معرفة قبلية مخزنة يكون مصدرها الذاكرة كما اشرنا له سابقا.

كانط والمكان المحض

كانط في فرضيته الادراكية الحسية او الحدسية ذهب الى انه يمكننا نزع صورة الشيء عن محتواه وندركهما، كلا منهما على انفراد مجردين من تعالقهما شكلا ومحتوى, نجده ذهب ابعد من ذلك قائلا:” المكان ليس تصورا حسيا مشتقا من الخبرات الخارجية. والمكان تمّثل قبلي وضروري يكمن وراء جميع الحدوس الخارجية. ونحن لا نستطيع تمثل غياب المكان ولكن باستطاعتنا ان نفكر به خاليا من الاشياء “ 3

ملاحظات تعقيبية:

- المكان وجود مادي لا تخلقه تصورات وتمثلات العقل الادراكية. وتجريد تصوراتنا الحسية عن المكان هي تصورات التفكير نفسها في اي موضوع عقلي. والضرورة الموجودية للمكان تستبق فكرة المكان حدسيا مقطوعة الاوصال بعوامل انبثاقها المنطقي الحي الطبيعي كمادة. المكان تجريد مادي وليس تصورا يبتدعه الحدس او الحس ويخلعه على الاشياء.

- كل تصور حسي للمكان حدسيا كان او تجريبيا هو تمّثل لخبرات اولية مكتسبة سابقة عنه. وعندها يصح قولنا المكان تمثل قبلي وضروري يكمن وراء جميع الحدوسات الخارجية.

وعندما يكون المكان قبليا على الحدس الادراكي فهذا يلزم بالضرورة خبرة مخزنة بالذاكرة عنه لاتمام عملية ادراكه بصورة صحيحة سليمة. الحدس استثارة معرفية يتم خارج توقعات الادراكات الحسية يأتي على شكل ومضة.

- قول كانط “ لا  نستطيع تمثل غياب المكان لكن باستطاعتنا ان نفكر به خاليا من الاشياء” غياب وحضور المكان تصوريا لا يتم بمعيارية الفراغ, بل بمعيارية الاحتواء الامتلائي بالمادة, تصورنا الفراغ وتمثله لا ينسحب على غياب وحضور المكان كمحتوى. الفراغ هو صفة مادية لمكان غير متعيّن ولا محدود لكن لا ينوب عنه في الدلالة والمعنى. فالمكان غير الفراغ رغم تعالقهما الثنائي.

- يبقى المكان في جميع تجلياته وتحولاته مقرونا بمادة يحتويها, اما ان نقصر ميتافيزيقا التمثلات العقلية المجردة ان تخلق حقائق مكانية نعطيها صفة الادراك الواقعي الحقيقي ولم تكن موجودة سابقا فهذه استحالة يعجز التفكير العقلي القيام بها لانعدام آلية الادراك السليم..

ــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

  1. صادق جلال العظم /دراسات في الفلسفة الغربية المعاصرة. ص61
  2. نفسه الصفحة نفسها
  3. نفسه ص56 – ص 58
عرض مقالات: