اخر الاخبار

عندما أنزلني من القطار القديم الذي تهتز كل أوصاله حتى تحسب أنها ستتحطم. أشار لي احدهم

- تلك مدينتك.!!. وأردف.

-هل تراها ؟!

مشيت على مهل عابر ((سكة الحديد القديمة التي نمى العشب الأصفر عليها وطمرها التراب. رأيت بعيني الكليلتين وأنا أقترب من أشجاراً جرداء، أعجاز نخل يابسة، عشب مهشم ينتشر على الأرض. ورق شجر متيبس.. إنحرفت بشارع ما معتمداً على ذاكرتي لعله يوصلني إلى السوق. يبدو أن الأمكنة تتخذ هيئات أخرى عندما تمر عليها السنون. حتى إنها لا تشبه الصور التي في مخيلتي. وفي الطريق إلى السوق رأيت. نساء عجائز وشيوخ محدودبي الظهور يمسكون بعكازات خشبية، ويتجولون بلا هدف وأرواحهم مائعة. كانت الأشياء تعيش لحظاتها الأخيرة في مدينتي الجميلة التي أبعدني عنها الأسر.

عندما بدأ أفقي يتفتح وأنا طفل أتنقل في باحة بيت جدي مع ألعابي ألأثيرة التي أحبها. دبابة بلاستيكية صغيرة وبندقية كلاشنكوف من الخشب.طائرة حربية. من النحاس، سيوف كنت أبكي كثيراً عندما تعترض والدتي على شرائها وتفضل أن أشتري حلوى ألا أن إصراري يجبرها على ذلك.

المدينة وهي صغيرة كانت تداعب الحروب. مدينة مورقة الخضرة وأشجارها تعانق السماء لاسيما وأنها تطل على البحر.

الحرب بشغفها للدمار والموت عشقت مدينتي عشقاً عنيفاً حتى أنه من الصعوبة التفريق بينهما وكأنها فتاة أسمها مدينة، ورجل أسمه حرب. وقد تمكن حرب من السيطرة على قلبها رغم مقاومة أهلها وأولاد عمها أبعاده عنها. ألا أنه واقعها وجعلها تحت الأمر الواقع.

في تجوالي اليومي في أيام خلت وأنا يافع واقعا تحت سطوة ألعابي. في المدينة. أرى الساحات، والبنايات الكبيرة والصغيرة والمتنزهات والأشجار والسيارات. وقد اتخذت شكل الدبابات، والطائرات الحربية والصواريخ, والبنادق والقاذفات والخوذ. وتخيلت أن كل شـيء تحول إلى شكل مـن أشكال الحـــرب. حتى أن البيوض في أعشاش طيور المدينة أتخيلها ستفقس مدافعً وبنادق، ودبابات صغيرة، وصواريخا، وألغاما. بدل طيور الحب والزاجل والعصافير والنسور, والببغاوات.

المدينة استباحتها الحـرب... وفي كـل مـرة نسـتيقظ فـي الصـباح فنجـدها. بــلا منارات، ولا أبــراج، ولا كنائـس ولا مساجد، حيث تضرب الصواريخ.بناية الاتصالات ومحطات القطار. والكهرباء والمطارات. والمارة. وبعــد انتهاء المعركـة تمتلئ بالغبار، والدخـان، ورائحة البارود. وتغــادر الطــيور سـماء المدينة الى مدن أخرى أمنة. ويقوم الناس بتزويجها من جديد.

وعقب كل انهيار للمدينة ينتعش عمل الدجالين، والمشعوذين والكذابين وكتاب التمائم والساحرات، والقوادات والمباغي السرية، واللصوص. ويصاحبها السطو والقتل ويرتفع صوت الباعـة المتجولين على المواد الغذائية التالفة. وكل شيء قديم.حتى قبقات أسنان الموتى الفضية والذهبية وأحذية النساء البالية..علا صياح أحد الباعة.. وترى أهل المدينة يعرضون للبيع ما يملكون من حاجيات القدور،الأساور, الملاعق، الصوان. الأواني والنظارات الشمسية وبدلات الأعراس القديمة.القمصان والقماصل ولوحات الخيول والغزلان وصور فتيات السينما الساحرات الجمال، وصور لرجال مشهورين في ابتكار النظريات والأفكار, والكتب القديمة، والمخطوطات النادرة والساعات الأثرية، والثريات والشمعدانات ودلال القهوة، وسماورات الشاي الكبيرة. والكراسي الخشبية العملاقة. والعكازات، والأبواب المصنوعة من الصاج وشجر الأبنوس. بعد خلعها من أبواب الصالات والغرف، وقناني الخمور المعتقة الفارغة وقناني العطور وأقلام الشيفر وبيادق الدومينو والشطرنج وتكاد بيوت المدينة تخلو من كل شيء..

لم أعد أتذكر كم حرب نشبت في قلب هذه المدينة...أن مخيلتي واهنة. لكني استيقظت على صياح أحد الباعة في الصباح الباكر.

-عتيق... عتيق...عتيق... ثم تابع.

-دبابة عتيقة – كلاشنكوف، قاذفة، مدفع، خوذة، ناظورات ليلية، قناصات، سيوف صدئة، مسدسات كاتمة عاطلة، دخانيات، مسيلات للدموع، هراوات لجلد المتظاهرين، ظروف رصاص فارغة، أنواط، أوسمة. كانت أصوات الباعة ترتفع وتتعالى في كل حدبٍ وصوب من أزقة المدينة. ودربكات سنابك الخيول والبغال والحمير التي تجر العربات تضج بالأذن وحديد المكائن القديمة. يبدو أن هذه الرحلة الأخير للسيد ((حرب)) في مدينتي....

حاولت أن أنهض لأرى ذلك، ألا أن جسدي الواهن لم يمكنني من ذلك. استلقيتُ على فراشي وأنا أعيد بذاكرتي الصور المتلاشية. ربما هي رحلتي الأخيرة التي لا مناص منها.

عرض مقالات: