اخر الاخبار

 نشهد في كل عام الكثير من الأفلام الجديدة التي قد تزيح أفلاما كانت تستحق وقفة متأنية، وقد ارتأينا نقديم عنها قراءات تحاول أن تقترب من ثيماتها والرسائل التي جاءت كي تقدمها، فلم أگورا (2009) كتب له السيناريو وأخرجه أليخاندرو أمينابار، وأدى أدواره الرئيسية راشيل ويز، ماكس منجيلا، أوسكار إيزاك، أشرف برهوم، روبرت ايفانز، همايون أرشدي، سامي سمير، تدور أحداثه في مدينة الاسكندرية، أبان بدء انتشار المسيحية هناك، حين كانت الوثنية هي الديانة السائدة آنذاك إلى جانب اليهودية، يتناول الفلم تجاور أديان تصل إلى حد التناقض واقتراف المذابح أحيانا، وما أشبه الليلة بالبارحة.. تعرض لنا الكاميرا منذ البداية ديكورات فرعونية ضخمة ومبان ذات طرز رومانية وهيلينية في امتزاج حضاري يعد شاهدا على أن تجاور الحضارات يقدم تنوعا في المعطيات الناتجة عن هذا التلاقح، إلا ان الصراع العقائدي يدمر ويحرق هذه المعطيات، وهكذا أصبحت الفيلسوفة الجميلة هيباتشيا من ضحايا سيوف العقائد، كانت تدرس تلاميذها في مكتبة الإسكندرية محاورة أفكار بطليموس حين كان الشباب الاسكندري مهموما بهاجس المعرفة دون الانتباه للفوارق الدينية او الطبقية، لذا لم يكن غريبا أن يبرز من بين التلاميذ العبد ديفيس الذي صمم الة تسهل فهم نظريات بطليموس.. ولم تكن العواطف غائبة عن مسار الأحداث فقد رأينا الشاب أرستيس عاشقا لأستاذته هيباتشيا التي لم تعر له بالا، وقدمت له منديلا مغموسا بدم طمثها لتخبره أن ما يبحث عنه أمر تراه مبتذلا فهي منشغلة بالسمو الفكري فقط.. لكن الصراع الذي بدأ فكريا عبر حوارات بين المسيحيين والوثنيين تحول سريعا إلى مجازر ربما لم تكن ستحدث ان شاعت فكرة قبول الاخر والتعايش معه، والد الفيلسوفة هيباتشيا وهو عالم كبير كذلك، جلد العبد ديفيس حين عثر في بيته على صليب.. محاولا رفض واقع ان المسيحية بدأت بالتسلل إلى بيوت علية القوم، ولم تكن هيباتشيا معنية بالخلافات العقدية، لذا دفعها وازعها الإنساني السامي إلى تطبيب جروح ديفيس، مشيرة له ان عقائده تخصه وما يعنيها هو قدراته العلمية المتفوقة وأعلنت في قاعة درسها بأنها لن تقبل أي حديث عن الأديان في قاعة الدرس.. وسرعان ما غزت المسيحية الارستقراطية الوثنية والفكر ذو الجذور الاغريقية لتعمل على نخرها من الداخل، بينما هاجمها من الخارج المتعصبون حاملي معاول الهدم والقتل.. وهكذا تلاشت في نهاية الأمر حضارة عظيمة قديمة، لقد عرض لنا الفلم الآلية التي دفعت العبد ديفيس للإيمان بالمسيحية، الأسقف الذي يتحدث بكلام الله من خلال قطعة جلدية، والكنيسة التي تقدم الطعام للجياع في مدينة تعج بهم.. تناقض طبقي واضح دفعهم إلى أحضان المسيحية التي كانت رحيمة بهم.. فصاروا بالتالي معاول الهدم التي اعتمدتها الكنيسة مستغلة مشاعر الحقد التي كانوا يحملونها ضد من تسبب في جوعهم، ولا يتورع قساوسة الكنيسة في توجيه الاهانات للآلهة الوثنية في استفزاز سافر لمشاعر الوثنيين الذين بادروا إلى الدفاع عن الهتهم، عرض علينا المخرج لقطات بأحجام مختلفة لسيوف صارت تتلاقفها أيدي الشباب المتحمس.. ولم يكن المخرج محايدا حين صور لقطات القتل من زاوية رأسية (عين الطائر) ليقول عبر كاميرته بأن السماء ترى هذه الرهبة المقززة في مشاهد قتل وحشي.. خرج منها والد هيباتشيا بإصابة قاتلة لم تمنعه من تذكير ابنته بأن عليها أن تدافع عن حريتها.. هذه الحرية التي غدت فيوضات من التصوف في فكرة العلم المجرد، وخلال حصار المسيحيين الذين اظهرهم المخرج ثلةً من الغوغاء يحاصرون الوثنيين في مكتبة الإسكندرية، ولم تكن هيباتشيا مهتمة سوى بمواصلة النقاش مع تلاميذها عن حركة الشمس والتوابع ونظرية ارسطو، ثم بمحاولة انقاذ ما تستطيع من كتب المكتبة الهائلة، التي ما إن دخلها المسيحيون حتى حطموا وأحرقوا ما وقعت عليه أعينهم.. وفي إشارة مؤلمة رأينا العبد ديفيس الذي كان مشروعا لعالم فلك، أمسك البلطة صارخا بحماس ومحطما تمثال سقراط، ليرفع يده الممسكة بكتاب متباهيا بتحطيمه، ثم يحطم آلته التي سبق ان ابتكرها، لقد اختار الجهل والحماسة الزائفة في مقابل العلم.. وهذه نتيجة يحرص رجال الدين في الغالب على تحقيقها لدى الرعية (التجهيل).. وقد حققت غايتها فعلا فأعظم مكتبة في العالم القديم أصبحت اسطبلا للحيوانات.. وبعد ان تخلص الاسقف من الوثنيين بدأ باستفزاز اليهود وقد قرر ألا يشارك المسيحين أحدا في الهيمنة على مدينة الإسكندرية.. وهكذا شهدت الشوارع مجازر أخرى انتهت بطرد من بقي من اليهود.. ثم وجه رجال الكنيسة انظارهم إلى الفكر فقرروا اجتثاثه من خلال قتل الفيلسوفة هيباتشيا، فاتهمها بالسحر والشعوذة، وفي إشارة حب أخيرة قام ديفيس بقتلها خنقا بعد أن طلبت منه نظراتها المترجية أن يخلصها من المصير الذي قرروه لها وهو القتل رجما بالحجارة والسحل في الشوارع عارية.. فيلم أكورا جهد متميز حصل على العديد من الجوائز منها سبعة من جوائز جويا الاسبانية التي تقارب في أهميتها اوسكار الامريكية وسيزار الفرنسية..

عرض مقالات: