اخر الاخبار

اثار كتاب د. حسين الهنداوي “الفلسفة البابلية” الصادر عن دار المدى كثيراً من الاسئلة لمن لديه معرفة بتاريخ الحضارة العراقية ولكن للأسف لم يذهب احدهم لفحص الكتاب والتعريف بالجهد العميق للأستاذ حسين الهنداوي.

وكتابتي الثانية وربما الثالثة تعبير عن اعجابي بالمنجز والذكاء والعمق بملاحقة النظم الثقافية والدينية التي اعتمدت على عتبات الاول للتفكير المنطقي واكثر ما لفت انتباهي قراءة الهنداوي للإله انكي الاله السومري الذي حاز صفة العقل والحكمة وتميزت شخصيته في مرحلة سومر واكد بالهدوء والتوازن ومناصرة الانسان والدفاع عنه في لحظات النكبات وكان له دور جوهري في تكريس العقل الموضوعي الذي انكره الاخر وحاولوا طرد سومر من العراق . وهذا الاله شجع وعمل على نشر عناصر الحضارة السومرية في المدن العراقية ومعروفة لنا اسطورة “ المي / ME “ والتي تعني النواميس الالهية . واسطورة “ المي “ من اهم واجمل ما انتجته البنية الذهنية السومرية وموجزها قيام الالهة انانا / عشتار برحلة الى مدينة اريدو حيث معبد الاله انكي وجلسا معاً يتنادمان ويشربان كؤوس الخمر وكان للاله انانا لا/ عشتار دور في اضفاء طابع المتعة والانس، وعندما ادركت بأن الخمرة اخذت قليلاً بعقل انكي، طلبت منه عناصر المي، فاستجاب لها وغادرت حاملة معها . القانون / الموسيقى / الجنس / الحب / الكتابة / القراءة / الغناء .... وبعد صحوة انكي ادرك الخطأ الذي وقع به، فطلب من حارسه ننشوبور ملاحقتها واستعادة “ المي “ منها، لكنها تمكنت بذكائها وفطنتها مراوغة حارس انكي حتى وصلت الى مدينة اوروك . هذا فعل مقدس للإلهة انانا / عشتار واعتقد بأنه من اهم ما ذهبت اليه انانا / عشتار، لأنه ينطوي على شكل من اشكال الحوار والتبادل الثقافي والمعرفي بين اريدو واوروك كما انه ينطوي على رفعه التبادل والاتصال بين انكي وانانا . حتى لم تثر ملاحظة حول ما فعلته الالهة لان ما يحصل بين الالهة مقبول وحيوي .

و” المي “ هي اهم ما سعت اليه الالهة ومنحته المدينة اريدو مدينة انكي، العقل والحكمة ولانه هكذا معروف بقدراته الاستثنائية لابد على الباحث ان يؤشر علاقته مع الحكمة والفلسفة وهو العتبة المبكرة الاولى وكان وريثة حفيدة “ نابو “ في مدينة بورسيبا وانا اعتقد بأن انكي هو الاسبق في تاريخ الحضارة الشرقية وكان زينون الابلي هو المتأخر .

وهناك نص بابلي صريح الاشارة الى ذلك . فهو اذ يقلص الالهة الى حد الاقتصار على اكبر، لا يلغيها انما يتمثلها كمجرد احوال له :

انليل وننليل بصره

وايا ودامكينا سمعه

ونابو بصره /

ولنلاحظ بدقة ان “ الصدر “ يعني القلب هنا الذي هو منزل العقل في الفكر العراقي القديم //ص101//

واعتقد بأن قراءة الهنداوي للصدر في النص السابق لا يعني القلب وواضح بأن السبب الذي ادى بالهنداوي لتفسيره المشار له هو . وجود القلب في الصدر، لكن انا اعتقد بأن القلب يعني الطاقة الممنوحة للكائن من قبل الالهة وبدونه لا يقوى الانسان على ممارسة كل فعل . وما يؤيد ملاحظتي وجود خمسة مجلدات من شعر سومر واكد . وتميز المجلد الاول بعنوان “ اعطني . اعطني ماء القلب “ ومعناه ماء الفحولة المتذوق لتخصيب الانثى والنصوص في هذا المجلد كلها ايروتيكية وبصراحة واضحة ...

وتضمن التراث السومري والبابلي عدداً مهماً من الاساطير والملاحم موضحة الموقف العقلي للإله انكي بوصفه احد اعظم الالهة بالعراق القديم وتشير النصوص الاسطورية لمنطق انكي وعظمته وخصائصه العقلية الجوهرية . وعلى سبيل المثال اشارت المصادر الى ان “ اتراحاسيس “ من وراء جدار القصب، لان ما يعرفه انكي من خصائص زملائه الالهة . لذا وبناء على تعليمات انكي صنعت السفينة التي صعد اتراحاسيس وعائلته الى ظهرها مع صناعها وممتلكاتهم ووحوش البرية للنجاة من الطوفان المدمر . وهذا المنظور نجده ايضا في ملحمة جلجامش بخصوص الطريقة التي اعتمدها الاله انكي في نقل المعارف الى اوتونبشتم محجوباً عنه بكوخ القصب الذي كان يعيش فيه الانسان الاول على الارض . ذاك متجنباً هكذا تلقين الانسان الاسرار الالهية مباشرة / 82//

كشفت ملحمة جلجامش بوضوح تام من ان الملك جلجامش مكون من ثلثين اله وثلث بشري . بمعنى سيادة المقدس والعنصر الديني هو الاسمى والاكبر في شخصية جلجامش . لكن تذهب الفلسفة البابلية الى ان العقد الانثوي لا يقل اهمية عن من كان حائزاً على عناصر مقدسة . وهذا ما لعبته “ سيدوري “ وهي تلقى جلجامش درساً بالحكمة والاكتمال والنضج وهذا الملمح هو ما يعطي العقل البابلي تمجيداً وتجعله اكثر دنواً من العقلي واليومي وتدعوه الذهاب للحياة والسعادة عبر كلامها الدافيء والخالد :

الى اين تمضي يا جلجامش ؟ الحياة التي تبحث عنها لن تجدها ( فالالهة لما خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيباً ) وحسبت في ايديهما الحياة / اما انت يا جلجامش، فأملا بطنك . افرح ليلك ونهارك / اجعل من كل يوم عيداً ارقص لاهيا في الليل وفي النهار / اخطر بثياب نظيفة زاهية اغسل رأسك وتحمم بالمياه / دلل صغيرك الممسك بيدك / واسعد زوجك بين احضانك / فهذا نصيب البشر / طه باقر / ص79//

اشار د. حسين الهنداوي معلقاً عن النص السابق بانه يوميء الطقوس الزواج الالهي المقدس . واعتقد بأن النص هو الروح العميقة للديانة البابلية ومن قبل السومرية التي كرستها الالهة الام الكبرى وجعلت من الحياة مركزاً للعشق والحب وادامة للعلاقة مع الجسد الذي حاز قداسة لا مثيل لها، من هنا كان كلام سيدوري خلاصة لكل ما قدمته الام الكبرى واستفادت منه نصوص الزواج المقدس . وتوصلت انا عبر كتابي “ التوراة وطقوس الزواج المقدس “ الى ان هذا الطقس اضفى تنوعاً على الحياة العراقية وفتح الاماكن المقدسة لاعلاء الاتصال الجنس . والنص المشار له قبل قليل غير تعبيري عن طقس ديني وانما هو ما توصلت له المرأة من تغذيات ثقافية وحضورات شعرية ذات بلاغة جعلت من المرأة جوهرة الحياة ومجد الذكورة التي لا تقوى على الديمومة بعيداً عنها، ما قالته سيدوري استعارته التوراة نقلاً وتحول الى احدى الحكم العظيمة التي فاض بها عقل المرأة، لان ما قالته، لم يكن منقولاً، بل هو ابتكار وابداع لها .

وبالامكان ان اقول بأن نص سيدوري تعبير عن الكمال الانثوي ويقترب عن طاقة الكتابة الشعرية . كما انه يضيء ما توصلت له المرأة العراقية من وعي وشفافية ورقي بالعلاقة مع الزوج وتمجيده هذا اخذت عنه الديانات التوحيدية .

وأخيراً تمنيت ان يكون د. حسين الهنداوي قد التفت الى عقل المرأة، لانه منتوج التغذية الفلسفية ما قالته سيدوري المرأة العظيمة التي تسقي ما يجعل الرجل مستعداً لمزاولة ارقى اشكال الحب للمرأة وهي تسمعه نصوص مبتكرة او محفوظة وتؤهله للتسلل الى الفردوس وتضعه وسط تجربة صريحة مقترباً من الجسد الانثوي، وسيظل ممجداً الاتصال معها، لان وظيفتها اللذية نوع من ممارسة الطقوس . ان الاشتهاء هو علاقة مع الاخر تقع خارج دائرة الانجاز والاداء والقدرة . تمثل القدرة على عدم القدرة . النظير السلبي له . سلبية الاخر، اي سحره، الذي يفلت من الاحاطة الشاملة به . هي التي تشكل الايروس يحمل الاخر الغيرية بوصفها جوهراً له . وهذا هو السبب من اننا نبحث عن تلك الغيرية داخل علاقات سلطوية . يونغ شول هان / معاناة الايروس / ت : بدر الدين مصطفى / دار معنى /2021/ ص22//

لم يكن النص الشعري لسيدوري تعبيراً لسيدوري تعبيراً عن ديانة مطلقة ضاغطة بل هو كشف عن ثنائية المؤنث والمذكر اللذان يشيران الى اكتمال الرغبة والحاجة ومن بعد تحققات الديمومة والانبعاث ولابد من ضرورة الاشارة الى ان ما قالته سيدوري لا يشف عن قدرة مطلقة للذات هي على وجه التحديد ما يفضي الى تدمير الاخير، اما العلاقة الناجحة مع الاخر فانها تظل داخل منطقة اللا قدرة . فقط عن طريق ان تكون قادراً على ان تكون غير قادر يمكن للاخر ان يظهر ( سبق ذكره / ص22) .

عرض مقالات: