اخر الاخبار

لئن حالف الحظ سجناء البصرة الذين كان الشاعر هاشم صاحب وأنا من ضمنهم أن ينجو من قطار الموت لعدم وجودهم في بغداد بعد فشل الثورة الشجاعة لحسن سريع ورفاقه الأبطال، فإنه لم ينجهم من قافلة الموت التي نقلتهم من البصرة إلى نكرة السلمان عبر الطريق الصحراوي غير المطروق إلا من المهربين والذي كان يُطلق عليه طريق إبصية، وبصية هذه نقظة تأتيها شرطة الكمارك بين فترة واخرى. وقد يتحدث البعض عن قافلتين من هذا النوع سلكت احدهما طريق الناصرية عبر الصحراء والتي ضمت السجناء السياسيين العسكريين وغير العسكريين الذين نُقلوا إلى نقرة السلمان. اما الثانية التي نقلت العسكريين من معسكر محمد القاسم إلى نقرة السلمان فهي التي سارت على طريق ابصية هذا بسيارات نقل خشبية كان يُطلق عليها آنذاك (دَك النجف).

كان عدد هؤلاء السجناء في قافلتنا هذه مائة سجين تقريباً تم حشرهم في هذه السيارات التي إنطلقت بهم عبر الصحراء تقودها سيارة مسلحة من سيارات الشرطة لتصل إلى قلب الصحراء التي لا اثر فيها لأي نوع من الحياة في منتصف نهار اوائل تموز. ولو ان السفر في مثل وسائط النقل هذه وتحت هذه الأجواء تحت الشمس اللاهبة في هذه الصحراء قد تم بشكل إعتيادي لكانت الصعوبات الناجمة عن ذلك غير ذي أهمية تُذكر. إلا ان غوص عجلات السيارات في رمال الصحراء وعدم إستطاعتها الحركة قد جعل السجناء امام خيارين احلاهما مرٌّ علقم. فإما المكوث في الصحراء والتعرض للموت عطشاً وإما تمهيد الطريق لعجلات السيارة من خلال الحفر في الرمال في الوقت الذي لم يكن سواق هذه السيارات قد إستعدوا لحالة مثل هذه كوجود آلات الحفر في سياراتهم مثلاً. وفي الوقت الذي ظلت فيه سيارة الشرطة تتفرج على الموقف، وكأنها كانت متوقعة لموقف كهذا، كان لابد من إستعمال الأيدي لإزاحة الرمال من امام عجلات السيارات. هذا الجهد الذي يرافقه تعرض الجسم إلى العرق وفقدان ألأملاح مما يتطلب تعويضه بتناول الماء الذي لم يكن متوفراً بكمية كافية لهذا العدد الكبير من السجناء. واستمرت هذه الحالة في قطع الصحراء حتى خارت كل القوى في منطقة ما في قلب الصحراء لم يكن من المستطاع إجتيازها بالنظر لفقدان القوة الجسدية لدى السجناء الذين أخذ منهم العطش مأخذه. والغريب في الأمر ان سيارة الشرطة إختفت فجأة ولم يعلم اي احد سبب إختفاءها وظل سائقو السيارات في حيرة من امرهم لا يعلمون ماذا يفعلون. واستمر الوضع على هذا الحال حتى المساء حيث إنحسرت الشمس وانخفضت درجات الحرارة اللاهبة، إلا ان ذلك لم يعط السجناء القوة الكافية للإستمرار في الحفر، فانتشروا يلقون انفسهم على الأرض بانتظار المجهول. وبعد ان حل وقت الغروب فوجئ الجمع الملقى على الأرض بوصول سيارة حمل (لوري) محملة بالرقي والخبز والمساحي. ما كان اطعم ذلك الرقي الذي لم يفارق مذاقه في ذلك اليوم ما تبقى من العمر. وعلى تلك الرمال التي بدأت تكتسب حرارة ليل الصحراء شيئاً فشيئاً إنهالت الأكف بقبضاتها التي إستعادت قوتها فجأة لتهشم الرقي وتقطع الخبز، فيتناول الجمع أحلى وألذ وجبة طعام.

من الطبيعي ان لا يتبادر إلى الذهن تحت وطأة مثل هذه الظروف ان يجري الإستفسار اولاً عن كيفية وصول هذه السيارة وإلى هذا المكان غير المطروق بالذات. إلا اننا علمنا بعدئذ بأن سيارة الشرطة التي تركتنا اخبرت رفاقنا السجناء في نقرة السلمان بالأمر، فلم يتوانو عن الإتصال بدائرة السجن واجبروها على ان تسمح لهم بتهيئة سيارة الحمل هذه وملئها بهذه البضاعة التي وصلتنا في الوقت الذي يمكن ان نسميه بالوقت الضائع فعلاً.

وصلت هذه القافلة إلى سجن السلمان في منتصف الليل تقريباً وهي تعاني من ألإرهاق والهزال، فتوزعت في باحة السجن على غير هدى، إذ لا مجال لتوزيع القادمين الجدد على قاعات السجن العشرة (القووايش) التي أخذت تمتلئ تدريجياً لتصل إلى الآلاف التي تفوق العدد الرسمي المسموح به.

عرض مقالات: