اخر الاخبار

عندما دخلتُ المكتبة، لم أر السيدة أميمة أمينة المكتبة ذلك اليوم، وأنا أبحث عن ( كتاب قديم للرهبان البوذيين في التبت )، كنت أتملّى عناوين الكتب المصفوفة على الأرفف برغبة آسرة، يقيناً دخلت المكتبة مبكِّرا، حيث وجدتني وحدي تائها بين أروقة المكتبة، توقفت عند أحد الرفوف في غرفة مربعة ملحقة بآخر الأروقة، يقوم فيها ورّاقون وكُتبيون بترميم الكتب القديمة التالفة، ثم يعرضونها في نسق من الزينة قبل نقلها الى مصفوفات الكتب الأخرى.

كانت الغرفة شبه معتمة، وأنا أبحث في الزوايا عن زر الاضاءة، أسندت مرفقي الى أقرب حافة من المكتبة عند الباب، عند ذلك انداحت بي الحافة فجأة الى الداخل، حتى وجدتني في مخبأ مخفي، حيث إنكشف لي ممر مظلم يفضي الى ضوء باهر في أعماق الظلام، وبدافع رغبة غير مؤكدة في البحث عن متعة الاكتشاف، دلفت الى الداخل، وقد قادني الممر الى مصعد مخفي، مصمّم على النزول الى أسفل.

ولأنني من رواد المكتبة، كنت أعلم بأنها بناية من طابق واحد، لها إمتداد أفقي واسع  ينطوي على متاهة من الأروقة، تذكّرت بأنني دخلت مصعدا مشابها في بناية للتخطيط تابعة للامم المتحدة في دولة عربية، ولكن المصعد النازل الى الأسفل لم يكن مخفيّا أو محجوبا عن الأنظار، وقد خُصِّص المصعد للنزول الى طابق أسفل البناية، ولكنه غير مزوّد بسلّم أو دَرْج محايث للطوارئ.

خالطني شعور غامض بالتشابه بين المصعدين، غير أنني لم أكن متيقنا ما إذا كان المهندس الذي صمّم المصعد المخفي في المكتبة، قد أخذ فكرة تصميم المصعد من المهندس الذي صمّم المصعد النازل الى أسفل في بناية التخطيط.

وقبل أن يفضي بي الممر الى عتبة المصعد المخفي، إنغلقت الحافة من المكتبة، حتى إلتحمت بالجدار، في تلك اللحظة إنتابني قلق مفاجئ، حيث ألقت بي الصدفة في مطبق معزول عن المكتبة، فالمصعد المخفي غير نافذ الى أعلى، كما لم أر أية لوحة للتحكم فيه من الداخل، توجسّت خيفة أكثر، فقد تبدّدت رغبتي الأكيدة في الاكتشاف، إذ قد يطبق المصعد عليّ في الداخل، ولا أحد يعلم بوجودي في هذا المكان المجهول.

وأنا داخل المصعد، إنهمر عليّ شلال ضوئي أحمر، مرّت لحظات قبل أن ينقطع شلال الضوء، حيث نزل بي المصعد مصحوبا بصرير متواصل لم ينقطع، إلا بعد أن توقف فجأة، كدت أختنق، فقد كانت رائحة الهواء آسنة، وكأن المصعد متروك منذ زمن غير معلوم.

إنفتح الباب على ممر نصف مضاء ( فكّرت بحواس مشوشة : قد أكون معزولاً عن العالم كله، دهمني خوف مرعب من العزلة،  وقد إنزلقت بي متعة الاكتشاف نحو حافة خطرة.

ألقى بي الممر الى قبة دائرية تحت الأرض، كأنها قبة حديدية مصمّمة لإمتصاص الصدمات والأمواج الصوتية، وفي الوسط مائدة مرمرية مستطيلة، تحيط بها ستة مقاعد حجرية، يتصدّرها مقعد حجري يستند الى طائر أسطوري مفرد الجناحين شبيه بالتنين، وعند مقدّمة المائدة كتاب ضخم بجلد أحمر سميك، مذّهب الحواشي، وقد صُمِّم غلافه على هيئة دائرة تبدأ من نقطة فسفورية لامعة لاصفة، داخل مثلث متوازي الاضلاع.

قبل أن أتربع فراغ المقعد الحجري الذي يتصدّر المقاعد الأخرى، سرى في داخلي إحساس غريب، كأنني أسير قوة خفيّة، وكأن مَنْ يتربع فراغ المقعد الحجري يتمتع بقوة فريدة من السلطة، يسنده تنين مفرد الجناحين، وكأنه وحده مَن يمتلك القدرة على التحكّم بالعالم.

قلت في نفسي، لعله وهم شبيه بالوسن، إستدرجني الى هذا المكان، ولكن ثمة رغبة جامحة تميل بي نحو الشطح، والإنزلاق نحو تحقيق ما يتمناه المرء من رغبات مستحيلة.

أيقنت بحدس لا يخطئ، أنه كتاب سري غير عادي، لم أستطع أن أتمعّن صفحات الكتاب تحت وطأة الشك والارتباب والفراغ، فقد مرّت بي صور مذهلة : دول وممالك وأمم، وثائق ورموز وخرائط، فتن وملاحم  ومكائد، كائنات وقوى تحتدم في قيعان مجهولة.

أشعرني الكتاب، وكأن الهواء في قبضتي ( حاولت أن أتحرّر من وهم الطائر الاسطوري، إنتابني شك عميق، وكأني واقع في أساره ) وثمة قوة عجيبة غريبة تشع في داخلي.

وبدافع التملّك، آثرت أن أستحوذ على الكتاب، أيقنت انها مغامرة محفوفة بالمخاطرة، وفي اللحظة التي تأبطت فيها الكتاب، شعرت بخدر لذيذ، خلت القبة تدور بي من كل الجهات، وكأنني خرجت توّا من مركز سرّة الأرض، وقد مرّت برهة قبل أن أتحسّس وجودي في المصعد، كنت أصعد من القاع الى سطح  المكتبة.

وفي اللحظة التي توقف فيها المصعد، انفتح الباب، قادني الممر عبر عتمة باهرة، وفجأة  إنداحت حافة المكتبة الى الخارج (عبرتُ العتبة وأصابعي تتحسّس الكتاب، وكأنني أتلمّس الدليل الى إكتشاف قوى غير منظورة ) لم أجد أحدا في المكتبة، لعل السيدة أميمة أمينة المكتبة لا تزال مشغولة باعادة ترتيب مصفوفة الكتب في أحد الأروقة، حتى لم يرني أحد، وكأن العالم في متطوى الكتاب الذي صار  بحوزتي.

إنفردت بالكتاب وحدي، وكأنني في مكان سائل تجمّد فيه الزمان، لم أغادر مكتبي، وثمة شعاع يتنافذ من حولي، حتى خيّل إليَّ بأن الطائر يلازمني أو يتقدمني في صفحات الكتاب.

أحسب أنني تنبّهت بعد أن استيقظت في الصباح، بأنني مررت بليلة طويلة، فقد وجدتني على السرير وليس على مكتبي، دهشت أكثر حين لم أجد الكتاب بحوزتي !!

ــــــــــــــــــــــــــــــ

ناقد وقاص/ رئيس تحرير جريدة “الاديب الثقافية”

عرض مقالات: