اخر الاخبار

حوار: بيلي كاهورا

ترجمة : قحطان المعموري

نغوغي واثيونغو شخصية ودودة بشكل مدهش. فعلى الرغم من أنه كتب لمدة تزيد على سبعة عقود، وتعرض للسجن على يد النظام الكيني الأول، ثم أُجباره على النفي من قِبل نظام آخر، وتلقيه تشخيصًا بمرض عضال، لكنه لا يُظهر شيئًا من العبوس الذي يتسم به كثير من أبناء جيله من الكتّاب. رأيته لللمرةِ الأولى في مناسبة عامة في مركز "غو داون للفنون" عام 2004، خلال حضوري فعاليّة بمناسبةِ عودتهِ الأولى إلى الوطنِ بعد غيابٍ دام 18 سنة. جرت الفعاليّة في أكثر الظروف رعبًا. حيث تعرض نغوغي وزوجته نجييري لهجوم في شققتهما في منطقة نورفولك ، من قبل مقنّعين حيث اغتصبوا زوجته، وسرقوهما، وأطفأوا سجائر مشتعلة على جبين نغوغي. تفاجأ الجميع بحضور نغوغي الفعالية بعد أيام قليلة من الحادثة. جلس أمام جمهور غالبيته من الفنانين. وقد أدهشنا اتزانه العاطفي في حديثهِ الذي كان يخلو من أي أثرٍ للمرارة.  في عام 2007، قال الكاتب الراحل بينيافانغا وينينا: "إنه دليل على قوة كتابة نغوغي، وسياسته، أن يتفاعل الناس معها بهذه القوة، وبهذه الشخصية. فإذا كان كثيرون يلوّحون بألقاب الدكتوراه ضده، فلا بد أنه قوي فعلاً." وكان يقصد بـ"الدكتوراه" ما أسماه "عقلية الجذب للأسفل" في كينيا، وهي العقلية التي تخشى النجاح لدرجة أنها تسعى لتدميره. وقد كان هذا جزءًا مما واجهه نغوغي خلال سبعة عقود من الكتابة، لكنه احتفظ بفضوله وروحه المرحة وصلابته الهادئة رغم كل هذه التحديات.

قرأت روايته ( تويجات الدم) – ترجمها الشاعر سعدي يوسف الى العربية – وتوقفت عند ، مشهد الحانة وصندوق الموسيقى. وفجأة تذكرت  إحدى الحانات التي كنت أرتادها في شبابي في التسعينات في نيروبي تسمى "ماتيسو بيلا تشوكي"، أي "معاناة بلا حقد". لم يكن الاسم يعكس فقط حس الدعابة الكيني في وجه المحن، بل كان يعبّر أيضًا عن السياق الاجتماعي والسياسي الواسع في البلاد، السياق الذي كتب عنه نغوغي لعقود سبقت فترة شبابي. كانت "ماتيسو" مؤسسة كينية عندما كنت في العشرينات من عمري. عندها أدركت — أن ذلك المزيج من روح "ماتيسو بيلا تشوكي" وحكمة نغوغي هو ما يجعل منه ومن كتاباته تجسيدًا للكينونة الكينية، وفي الوقت ذاته عظمة تتجاوز الحدود الوطنية.

* بيلي كاهورا : تمتد مسيرتك الأدبية لأكثر من ستة عقود، وقليلة هي الأشكال الأدبية التي لم تكتب فيها. في نواحٍ عديدة، يمكن تقسيم مسيرتك الطويلة إلى فترات ركّزتَ فيها على الرواية، أو المقال، ومؤخرًا، المذكرات. كيف تنظرالى هذه المسيرة المترابطة كجسد إبداعي موحّد، رغم اختلاف الشكل أو النوع، في التعامل مع قضايا مثل الإمبريالية، الاستعمار، الدولة الإفريقية/الكينية، والمواضيع المرتبطة باللغة الإفريقية سواء كانت مسرحية مثل "محاكمة ديدان كيماثي"، أو رواية "تويجات الدم"، أو مقالات في موضوعة العولمة، أو قصة "كيف يمشي الإنسان منتصبا"،هل تراها مترابطة وكيف؟

- واثيونغو : المقال، سواء كان أكاديميًا أو تأمليًا؛ المذكرات باعتبارها أدبًا غير روائي إبداعي؛ والمسرحية ـ كلها تستمد من التجارب نفسها والنظرة نفسها إلى العالم. ومع ذلك، فأن لكل نوع أدبي خصوصيته الشكلية، أما رؤيتي للعالم فهي ما يوحّد كل هذه الأعمال. الحكاية الرمزية ( إتويكا ريامورونغارو)، تُجسّد بالفعل رؤيتي للعالم ونهجي الفني من حيث ترابط الظواهر وتداخلها. ومع ذلك، فإن عشقي الحقيقي كان دائمًا للأدب القصصي، وتحديداً الرواية، التي أتناولها دائمًا من موقع الحكّاء، وأسعى فيها قدر الإمكان إلى التجريب. في عملي الأخير ( التاسوع الكامل) إستخدمت الشكل الملحمي، وهو نوع من السرد الشعري القصصي. كما كتبت أيضًا قدرًا لا بأس به من الشعر باللغة الكيّكويو، على الرغم من عدم انجذابي.   

* بيلي كاهورا : يُبدي العديد من  الكًتّاب فضولاً ابداعياً في العمل بأشكال مختلفة، كيف كان اختيارك لشكل العمل .. هل ترى هذا قراراً واعياً، مرتبطًا بالمحتوى الذي تهتم به في لحظة معينة؟ مسرحيتك "محاكمة ديدان كيماثي"، ذات المحتوى السياسي، هل كان الفضول الإبداعي له دور في هذه الاختيارات؟

- واثيونغو: كتاباتي  مرهونة  بالظروف وكذلك مشاريعي المسرحية، ان مسرحياتي مثل " الجرح في قلبي"، كانت في الغالب من أجل مسابقات أدبية ، أما المسرحية الثلاثية "الناسك الأسود" فقد جاءت احتفالاً باستقلال أوغندا. في حين كانت مسرحية "هذا الوقت غدًا"، بتكليف من هيئة الإذاعة البريطانية. "محاكمة  ديدان كيماثي"، كتبتها بالاشتراك مع ميشيري موغو، بدافع من غضب مشترك. كنا نشعر أن كيماثي وأبطال وبطلات كفاحنا يتم شطبهم من صفحات التاريخ في الأوساط السياسية الكينية. ووفرلنا المهرجان الثقافي "فيستاك 77 " فرصة لعرض الجانب الشعبي من تاريخ نضال كينيا.

* بيلي كاهورا : ما هي السياقات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية التي تعتقد أنها تغيّرت أكثر من غيرها بالنسبة لك من حيث نظرتك للعالم وطريقتك في مقاربة الفن وماذا يعني ذلك بالنسبة لدورك ككاتب؟

- واثيونغو : ان حرب التحرير التي خاضها جنود جيش أرض وحرية كينيا ، الذين أطلقت عليهم السلطات الاستعمارية البريطانية اسم "ماو ماو"، كانت الأكثر إلهامًا سياسيًا. لقد كانت أول تحدٍ مسلح كبير ضد الإمبريالية البريطانية. لقد كان رجال ونساء KLFA مذهلين؛ لقد تمكنوا من تصنيع الأسلحة في مصانع متنقلة في الجبال وأخرى تحت الأرض في المدن. كما أنشأوا موسيقى ما تزال ألحانها مؤثرة ومفعمة بالحياة حتى اليوم. يمكن القول إنهم هم من كسروا ظهر الإمبراطورية البريطانية.  لقد عشت تلك المرحلة بكل أحلامي، ومن هنا جاء عنوان مذكراتي عن الطفولة: أحلام في زمن الحرب. في مذكراتي مولد ناسج الأحلام، تحدثت عن اكتشافي لفكرة السواد. لقد زرع KLFA تلك البذور. كما أن اكتشافي للفوارق الطبقية الاجتماعية كان مهمًا جدًا بالنسبة لي ككاتب. السواد يجب أن يُفهم في جميع أبعاده: الاقتصادية، السياسية، الثقافية والنفسية. في ملحمتي التاسوع الكامل، تلعب النساء الدور المحوري. التغيير الذي أتوق لرؤيته حقًا هو تمكين النساء السود العاملات اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا. أو بمعنى آخر: تحرر وتمكين المرأة السوداء العاملة يعني تمكين جميع الكادحين. فالنظام الأبوي هو أول أشكال الانقسام الطبقي، وهو الأساس لجميع الطبقات الأخرى. إذا تم تحرير العاملة السوداء، فسيتحرر الجميع. إن شخصية "نياويرا" في روايتي ساحر الغراب تسعى لتجسيد هذا الرؤية.

* بيلي كاهورا: هل كانت هناك أفكار إبداعية رئيسية خطرت لك لكنها لم تكتمل، كأن تكون رواية/مجموعة مقالات/قصص قصيرة ، فكّرتَ فيها لكن لم يتسنّى لك إكمالها؟

- واثيونغو: لدي رواية عن شخصية تُدعى "هينيري غاتينغيري" لم أتمكّن أبدًا من تطويرها بعد لحظة استراحته وهو متكئ على شجرة. منذ عام 1983 وحتى اليوم، لم أستطع أبدًا تحريك هينيري غاتينغيري من تحت تلك الشجرة. ذات مرة، أخرجت المخطوطة من الرف محاولًا الاستئناف، لكن الجملة الأولى التي كتبتها أصبحت أول جملة في رواية ماتيغاري. لذا لا يزال غاتينغيري متجمّدًا في الزمن، على تلك الشجرة. آمل أن أعود يومًا لتحريره. كما ذكرت في ميلاد ناسج الأحلام، في بداياتي دوّنت الكثير من الأفكار التي لم ترَ النور، وبدلًا منها، استحوذت رواية لا أيها الطغل على اهتمامي. أعتقد أن أفضل رواياتي هي التي لم أكتبها بعد. كل كتاباتي حتى الآن كانت محاولة للوصول إلى تلك الرواية الحلم.