تقوم (القوة الناعمة) على الجذب والاغراء والاغواء، وهي رديف (لغوي ومفاهيمي) لـ (القوة الصلبة) التي تعتمد الإكراه والإرغام والقمع. وهي سلطة دبلوماسية ربما تكون بديلة أو ربما تكون مساندة لسلطة القوة الصلبة، وهما قوتان نافعتان لأيةِ جهةٍ من الجهات المتصارعة في عالمنا المتلاطم وغير الآمن. فهما لا تستخدمان من قبل الجهة الأقوى فقط، بل جميع الجهات، مهما كان حجم الجهة، ودورها، وتوجهاتها السياسية والاقتصادية.
ومن يطلع على كتاب (د. علي عزيز) الفني الفكري، يجد أنه يتضمن أربعة فصول تعمّقَ في دراستها والغور في تفاصيلها. وهي:
1- القوة الناعمة بين المرجعيات الفكرية الحاكمة والإطار المفاهيمي المؤثر.
2- القوة الناعمة وفعالية العلامات المرسلة في الفنون.
3- إشهاريات القوة الناعمة ودورها في تحقيق الاستجابات السيكولوجية وبناء الذات.
4- تطبيقات سلطة القوة الناعمة على الصورة البصَرية الأميركية.
في الفصل الرابع من الكتاب يقول (د. علي عزيز) ما يلي:
(إنَّ حرب الفضاءات تتحركُ عبر قوةٍ ناعمةٍ ينقلها الملصقُ باعتبارهِ وسيطا ناقلا يَشْهَرُ رمزَ الثقافة الأميركية وهو ما أوصلَ نصوصا مرئيّةً لفضاءاتِ العالمِ الثالثِ، وباتَ يُقَوِّضُ ويهتُكُ نصوصا محلّيّةً لها هويةٌ اجتماعيةٌ يجري إسنادُها شعبيا ونخبويا دونَ أمرٍ أو إرغامٍ سياسيٍّ أميركي) ص191.
ونحن إذْ نثمِّنُ جهد (د. علي عزيز محسن) في انجاز وتسويق كتابه هذا، نشيدُ بما فيه من انزياح رؤيويٍّ على المستويين النظري والتطبيقي. ونقدم له اعتزازنا على توطيد العلاقة التخادمية بين المنهج وعينات البحث، وذلك من خلال ما توفر عليه (متن النصّ) من (تناص صريح) بين الكلمة والصورة. فهما تتقاربان حينا وتتباعدان حينا آخر على المستوى السيميائي، غير أنهما يتعالقان ويتعانقان حتما على المستوى الدلالي، لإنتاج توهجٍ خصبٍ خلال عملية الاتصال والتلقي.
ونحن نأملُ أن تتلاحق جهود البحث العلمي في جامعاتنا العراقية، على أن تتناول مواضيع جديدة تتناسب والتحولات المتسارعة في عالمنا المتغير على الدوام. وأن تكون البحوث بعيدة عن تقليد الفائت، ومتحررة قدر الإمكان من قيود الماضي، ومن أسلاك الانصياع التام للموروث. والتي تسوّر البؤر المستهدفة من التنقيب العلمي، بأراضٍ حرامٍ، تحذّرُ سالكَها من تجاوز الخطوط الحمر، المختلقة من قبل ضيق الأفق المتوارث.
ونشدانا للفائدة، ولإثارة الأسئلة المحرِّضة للإجابات، ننفتح على ما ذهب إليه المفكرون والفلاسفة وعلماء الاجتماع في انزياحاتهم حول هذا الموضوع. ففي كتابه (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية) يرى (جوزيف ناي) أن القوة الناعمة: (هي القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الأغراء والجاذبية بدلاً من الإرغام والإكراه أو دفع الرشاوى <والأموال> وتكون عن طريق نشر الثقافة والقيم لكي يعجب بها الآخرون ويحذون حذوها، فأن عوامل الأغراء أكثر فاعلية من الإرغام، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان). كما يقول جوزيف ناي في كتابه : " القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية".
وبين لنا، أن أهم مقومات القوة الناعمة هي المقومات: الثقافية. والإعلامية والدعائية. والسياسية والاقتصادية والسمعة وقد أشار كذلك، الى أن (المقومات الثقافية) تشمل ما يلي: الفنون والآداب بأنواعها. وإقامة المعارض الثقافية. والبرامج التعليمية. والتبادل العلمي والتكنولوجي والفني. وبث الأخبار والمعلومات على مختلف وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. وتقديم الهدايا والمكافآت والمنح والمساعدات. وتنشيط فعاليات التقارب الديني، عبر حوار الأديان والزيارات المتبادلة. واعتماد مختلف وسائل ترويج الأفكار والتوصيات للمناطق المستهدفة.
أما عالم الاجتماع (زيجمونت باومان) فقد أصدر مجموعة كتب حول (القوة السائلة) وهي: الحداثة السائلة/ الحياة السائلة/ الثقافة السائلة/ الأزمنة السائلة/ المراقبة السائلة/ الحداثة السائلة/ الحب السائل/ الخوف السائل/ الشرّ السائل. وهو في كتابه (الحداثة السائلة) يقول أن:
(المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة، وباختصارٍ شديد: اللايقين هو اليقين الوحيد. فثمَّةَ أكثريةٌ كبيرةٌ ومتزايدة <تكاد تكون ساحقة> لا ترى في ذلك النظام وجودا وليدا ناشئا، بل واقعا عصيبا يعيشونه).
بينما في كتابه (الشرّ السائل - العيش مع اللابديل) توصّلَ الى أن الشر السائل يتمتعُ: (بقدرةٍ رهيبة على الالتفاف على العوائق التي قد تظهر أو قد تعترض طريقه، فهو مثل كل السوائل، يتسرّب الى هذه العوائق ويرطبها وينقّعها، وغالبا ما يعمل على تآكلها وإذابتها، ثم يمتصُّ المادة المذابة ليزدادَ قوةً الى قوّته الأصلية. وهذه القدرة، إضافة الى القدرة على المراوغة، تزيد من صعوبة المقاومة الفعّالة للشرِّ السائل، فقد توغّلَ الشرُّ في نسيج الحياة اليومية وترشَّحَ في قلبها. وعندما يجري تحديده - إذا جرى تحديده أصلا – فإنّه يجعل كلَّ الصور البديلة للحياة تبدو غير معقولة، بل وغير حقيقية، فالسمَّ القاتلُ يصوِّرُ نفسَهُ بصورة مخادعة على أنه ترياق ٌ منقذٌ للحياةِ من شقاءِ الحياةِ) – كما يقول باومان في "الشر السائل".
وبعيدا عن الصلابة والنعومة والسيولة، نذهب الى (قوة الأثير) لأنَّ كتاب (كل ما هو صلبٌ يتحوّلُ الى أثيرٍ – تجربة الحداثة وحداثة التخلّف) يحيلنا الى ما ذهب إليه مؤلفه (مارشال بيرمان) الذي (قدّمَ اسهاما رائعا للنضال في سبيل تمكيننا من الإحساس بأننا في مسقط رأسنا، البيوت التي أقمناها، والشوارع الحديثة جنبا الى جنب مع روح الحداثة، تتعرّضُ للتبدّدِ والتحوّلِ الى أثيرٍ بصورةٍ مستمرّةٍ).
وبالعودة لكتاب (سلطة القوة الناعمة - تشكلات فن الملصق الأميركي) للدكتور (علي عزيز محسن) الذي كلفت بتقديم تعقيب حوله، مع (الشاعر د. مسلم الطعان) و(الناقد جبار وناس) أخلص للقول: أنه كان كتابا فكريا وفنيا، واشَجَ فيه الباحث، بين النظرية والتطبيق، وقد أثمر (لا يقين) الباحث، في تغذية مخيلتهِ، برؤية حرّةٍ غير منحازة لأية مرجعية مانعة للتجديد. ونجحَ مشغله تنقيبي، في مدِّ مجساتٍ معتدلة، خلال إجرائه الفاحص، لنماذجَ متعددةٍ ومتنوعةٍ من الملصقات الدعائية. والتي انتقاها كوسائط إعلانية ناقلة لرموز الثقافة الأميركية، وتتميّزُ بخصوبة إشهارية صادمة، للجمهور المستهدف الذي يتلقاها حتما، عبر وسائل الإعلام العابرة للقارات.