يتحرك الشاعر رياض الغريب في ديوانه ( نسر وحيد تتبعه العائلة) بمنطقة خطرة حيث يمشي على سراط يفصل بين الشعر بروحيته المنطلقة في حقل التأويل وبين السرد المتسلسل للحكاية متتبعا تأريخه الشخصي وعلاقته بالحياة بما تمثله من سياسة وحروب وعلاقات عائلية لذا تاتي نصوصه مثل حكاية بسيطة تستدرج القارئ حتى يقع في الفخ التاويلي بعد ان تلبسته الحالة الواقعية ,ويظن انه يمشي مع نص بسيط يمكن ان يكتبه اي كاتب يملك ناصية اللغة والدخول الى الشعر ,ولكن رياض الغريب يكسر التوقع باكتناز التجربة وهو يراهن عليها كثيرا الى درجة المسير مع الحكاية بتفاصيل عامة وشخصية يستقيها من تاريخ الشعب العراقي المعاصر ,فهو غير معني بالاساطير والمصطلحات الثقافية الصعبة التي تحتاج الى ترجمة وحتى ان جاءت احيان فانها واضحة ولا تقع في فخ التعقيد:
(يحدق الأحفاد بها
الأولاد المسنون
سيقولون لهم
كان رحمه الله
يسهر كثيرا
يتشاجر معنا
لأننا نسهر كثيرا أيضا
خارج المنزل)
هذه المفارقة يشتغل عليها الشاعر كي يتفادى مطالبة النقاد بالالتماعات خارج النص حتى يطبقوا عليها مساطرهم النقدية بالمصطلحات المتوارثة والمترجمة,اننا هنا نتحدث عن شاعر يبغي تتبع صوته الشخصي كي يكون قريبا من القارئ ,اي يسعى لكي يكون صوت القارئ غير المعلن والذي لم يفصح عنه من قبل.
علينا الاتيان بامثلة اكثر كي نقنع من يتعارض مع هذا الرأي:
(هل هذا وطن يسيل أمامه على اللوحة
هل هذا دمعه الذي يحتسيه خلسة
عن أنثى تأخذه لبياضها
تحدثه عن شجيرات الظل التي اقتنتها أخيرا
واحدة منها
تحب فيروز
ترقص في الفجر حين نلملم نعاسها)
اننا ازاء بناء شعري بسيط جدا نسبة لتقبله وهضمه بسهوله من جميع الاوساط ,البسطاء ثقافيا والمتعلمون والمثقفون,لانه يدخل الحاسة النقدية من اوسع الابواب ,ولكننا نحتاج الى التنبه للحظة الانتقال من الاعتياد والواقعية الى منطقة الادهاش والشعر:
(يقال
انه المتسلق الوحيد
للجبال
لكنه
حين أستقرت
طلقة القناص
في ظهره
أصبح
الوحيد في عزلته) نسر وحيد تتبعه العائلة/
لم يدخل رياض الغريب لعبة كيمياء اللغة او الايغال في الاستعارة على الرغم من انها كانت سلاحا لدرء الخطر ايام الرقابة القاسية لانه يكتب عن الواقع بروح الخيال فاننا اذا فككنا النص السابق نجد النسر رغم اصابته بطلقة قناص فانه (اصبح الوحيد في عزلته )نسر وحيد تتبعه العائلة./
هنا نجد ان الطلقة استعارة بديلة للانكفاء والعيش في عزلة قسرية وهي تنقلب من معادلة الموت بطلقة قناص الى الدخول في منطقة عزلة قاسية.
ومن المعلوم ان خريطة الشعر العراقي تنتشر فيها الاجيال والجماعات ورياض الغريب من جماعة الاسكندرية ايام ثمانينات القرن الماضي (علي الاسكندري ,حسين السلطاني ,خالد البابلي , هشام العيسى) واخرون حيث نشطت الاسكندرية بروح الصداقات والتكاتف على الرغم من انتمائهم لاتحاد ادباء بابل ,ولقد عمل الشعراء في الملتقى في منطقة مختلفة استفادت من التجريب والادهاش اللغوي وتوليد المعاني باكثر من اسلوب ,الا ان رياض الغريب بقي ممثلا للصوت الهادئ الذي يستند على الحكاية في الشعر واختيار ثيمة اجتماعية وكانه يتحدث الى العائلة او الى احد الجيران بما شاهده في السوق او ما اتاه في الحلم ليلة البارحة.
على وفق هذا السياق فان الشعر يحتاج هنا الى معايشة حياتية او ان الحياة تحتاج الى معايشة شعرية وهي تعتمد على المفردات الواضحة ولكن اكيد ان النسق الدلالي للجمل هو من يمنح شعره وضوحا يقع في خانة السهل الممتنع:
(إلى اصدقائي في السليمانية
في تلك المدينة
لا قاتل في انتظاري
اجلس صباحا كئيبا وحزينا
كعجوز يشعر بهشاشة العظام
ابتسم لهشاشة ذاكرتي
وافكر بحبيبتي
وحديقة بيتي التي كانت
انثاي في الصباح
اتنفس هواء نقيا فيها
واشرب شايا
تعده حبيبتي
وافكر بقاتلي
متذكرا شاعرا جنوبيا
كلما اراد الذهاب لعمله
يفكر فيه
الغامض
الملثم
الذي نعرفه
ويعرفنا جيدا
واحدا واحدا)
الشاعر ينطلق للكتابة مسلحا بعلاقته بالاسرة اولا والاصدقاء ثانية تحت سماء البلاد بعدة لغوية تخدم منحاه الشعري الذي يستفيد من السرد كثيرا للملمة الحكايات عن الاولاد والحرية والحروب دون ان يجره الشعر الى مناطق اخرى او تغويه اللغة في مساربها الاستعارية ,فبقي وفيا للشعر اليومي الواضح والمدهش معا.