قال جارُ الله محمودُ بنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَريّ
(467 ه– 538 ه) في أبي العلاءِ أحمدَ بنِ عبدِ الله المَعَرّيّ ( 363ه – 449 ه ) قولةً، لا مساغَ لها، أقحمها إقحامًا في سياق تفسير آيتينِ كريمتينِ من سُورة المُرسَلات ، أراد بها مذمّتَه والتشنيعَ عليه. وإذا كان قد قيل أمثالُها في أبي العلاء ، من قبلُ ومن بعدُ، فإنّها غريبةٌ نابيةٌ أن تكونَ من الزَّمَخْشَريّ نفسه ، العالمِ الجليل ذي المكانةِ المكينةِ في الفكر العربيّ الإسلاميّ .
وُلِدَ محمودُ بنُ عُمَرَ في سنة 467 ه ، بقريةِ زَمَخْشَر من أعمال خُوَارِزْم ، وتُوفّي في سنة 538 ه بجُرجانيّةِ خُوارِزْم . وكان قد نشأ على حبّ العربيّة ، والتضلّعِ منها ، وعلى التمسّك بالديانةِ والاستقامةِ عليها حتّى صارا عنده، العربيّةُ والدينُ، لا ينفكُّ أحدُهما من الآخر. ومن أجلِ العربيّةِ والدين سعى في الأرض؛ ينتقلُ من بلدةٍ إلى أخرى ؛ يسمع ويدوّن، حتّى نزل مكّةَ المكرّمة فأطال المُكثَ بجوار البيتِ المُعظّم؛ يدرس ويؤلّف ، ويتعبّد؛ فلُقّب بـ "جار الله"، ثمّ أصبحَ اللقبُ أدلَّ عليه من اسمه .
كان الزَّمَخْشَريّ على مذهبِ أبي حنيفةِ في الفقه، وعلى طريقةِ المعتزلةِ في العقيدةِ، وكان يَجهرُ باعتزاله ، ويُضيف إلى ألقابه لقبَ : " المعتزليّ". وكان غزيرَ التأليفِ كثيرَ الكتابة ؛ يزاول النثرَ والشعرَ، وله من الكتب ما هو في الطبقة الأولى من ميدانه؛ كمثل: "المفصّل" ، وهو من أجلّ كُتب النحو ، وكمثل: " أساس البلاغة " ، وهو معجمٌ فريدٌ بين المعجمات ؛ يُعنى بمعاني الألفاظ على الحقيقة والمجاز ، وله " الكشّاف " ، التفسيرُ الجليلُ المحكمُ البيان، وله " مقاماتٌ " جعلها قائمةً على الموعظة، والصلاح ، والإنابة ، ولم يسلِك فيها سبيلَ بديع الزّمان في مقاماته، وله "المستقصى في الأمثال" ، وله غير ذلك كثير . وهو ، من بعدُ ، من أربابِ البيانِ الرفيعِ الذي يُحكم الإحاطةَ بالمعنى إحكامًا تامًّا بدون نقص أو زيادة . وهذا هو مأتى الغرابةِ والنبو في قولته في أبي العلاء !
أمّا قولته التي جرى بها قلمُه في النيل من أبي العلاء فقد جاءت ، في "الكشّاف"، وهو يفسّرُ الآيتينِ الكريمتينِ ، من سُورة " المُرسَلات ": { إنّها تَرمي بشَرَرٍ كالقَصْرِ، كأنّه جِمالاتٌ صُفْرٌ } ، فبعد أن أتمّ التفسيرَ أورد بيتَ عِمران بن حِطَّان :
دعتْهُم بأعلى صوتِها ورمتهُمُ ... بمثلِ الجِمالِ الصُّفْرِ نزّاعَةُ الشَّوى
ولم يقل فيه شيئًا ، ثمّ أورد قولَ أبي العلاء :
حمراءَ ساطعةَ الذوائبِ في الدُّجَى ... تَرمـــي بكُـــلِّ شَرَارةٍ كَطِـــرافِ
وقال : " فشبهها بالطِّراف – وهو بيتُ الأدَم – في العِظَمِ والحُمرةِ ، وكأنّه قصد بخُبثه أن يزيدَ على تشبيه القرآن ، ولتبجُّحه بما سُوِّلَ له من توهُّم الزيادةِ جاء في صدر بيته بقوله : " حمراء " توطئةً لها ومناداةً عليها وتنبيهًا للسّامعينَ على مكانِها ، ولقد عَمي – جمعَ الله له عمَى الدارينِ – عن قوله عزّ وجلّ : { كأنّه جِمالاتٌ صُفْر } فإنّه بمنزلة قوله كبيتٍ أحمر ."
أفكان ذلك في مقصودِ أبي العلاء وهو ينشئ بيته ؟ أكان يُضمرُ مضاهاةَ الآية الكريمة ؟ أكان يصدر عن خُبثٍ وسوء طويّة إذ قال ما قال ؟ أم هو بريء من هذا كلّه ، وأنّ ما ذهب إليه الزَّمَخْشَريّ هو من محض تصوّرهِ الذي زلّ فيه عن الصوابِ فألبس البيتَ غيرَ لبوسه ، وأنطقه بما لم يقل؟
إنّ بيتَ أبي العلاء الذي وقفَ عنده الزّمَخْشَريّ هو من قصيدةٍ طويلةٍ قالها الشاعرُ في رثاءِ السيّدِ الحسينِ بنِ موسى العلويّ الطالبيّ، أبي أحمد ، نقيبِ العلويينَ في بغداد، ووالدِ الشريفين الرضيّ والمرتضى، وأنشدها، ببغداد ، في محفل العزاء، سنة400 ه، يعزّي بها ابنيه ؛ مطلعها:
أَوْدَى فليـتَ الحادثاتِ كَفـــــافِ ... مــــالُ المُسيـــــفِ وعَنبرُ المستـــافِ
الطـــــــاهرُ الآبــــــاءِ والأبنــاءِ والــ ... أثــــــــــــــوابِ ، والآرابِ، والأُلافِ
وقد بناها على مواردِ الرثاء في الشعر؛ من تفجّعٍ، وتحزّنٍ، وأسى ، إلى ذكرِ المحمودِ من سجايا المرثي؛ كالشّجاعةِ، والكرمِ، والنّجدةِ، ثمّ التعزّي بعَقِبه ذوي الحكمةِ والرأي والسّدادِ . أمّا البيتُ الذي عُني به الزّمَخْشَريّ، وذمّ أبا العلاء من أجله، فهو في موردِ الثناء على المرثي وأُسرته بعلوِ منزلةِ الآباء ، وبالكرم الجزل الذي تُوقَد له النيران :
ويُخــــــــالُ موســـى جــــدُّكم لجَـــــــلالـِـــه ... في النفسِ صاحبَ سُـورةِ الأَعْرافِ
المـوقِدي نــــارِ القِرى الآصــــالَ والــ ... أَســــحـــارَ بـــالأَهضـــــامِ والأَشــْـــــــعافِ
حمراءَ ساطعةَ الذوائبِ فــــــي الدُّجى... تــَرمــــي بكـُـــــــلِّ شَـــــــــرارةٍ كـــــــطِــــرافِ
نـــــــارٌ لـهــــــــــا ضَـــــرميّــــــةٌ، كــــــــرمـــيّـــــةٌ ... تــــأْريثُــــها إرثٌ عـــــــــــنِ الأَسـْـــــــلافِ
تَسقيكَ والأرْيَ الضَّريبَ ولو عَـدَتْ ... نَهْـــــيَ الإلـــــــــهِ لثـــلّثــــــتْ بِسُـــــــــــــلافِ
يُمســــــي الطــــــريدُ أمــامَــــها ، وكـــأنـــّه ... أسَــــــدُ الشَّــــرى أو طــــائرٌ بشَـــــرافِ
لقد افتنّ أبو العلاء في تصوير نار القِرى، وفصّل فيها ، واستوحى أشياءَ من القرآن الكريم ومن الشعرِ القديم، ومدّ فيها من خياله المُبتكِر ؛ لكنّه لم يكن، بأيّة حال، في مقامِ مضارعةِ الذكرِ الحكيم فضلًا عن الزيادة عليه . والموردُ، كلُّه ، من موارد الشعر العربيّ في الكرم ، ونارِ القِرى؛ التي هي ممّا يتمجّدون به ، ويُطيلون الحديثَ عنه بزهوٍ وانتشاء ، والقصيدة، من بعدُ ، كلّها من رفيعِ الكلام المستوي على نهج الأدب العربيّ والفكر الإسلاميّ .
ثمّ إنّ القرآنَ الكريم ، منذ أُنزل، كان مَدَدًا لأصحاب الشعرِ والنثر؛ يُطيفون به ، ويقتبسون من معناه ومن صياغته ، ويُحَلُّون آثارَهم به ، وقصارى البليغِ أن يستضيءَ بأقباسٍ منه.
ليس في بيتِ أبي العلاءِ خبثٌ ، وليس فيه سوءُ قصد ، وإنّما هو جارٍ على سُنّةٍ من سُننِ الشعر العربيّ في البيان ، ولكنّ جارَ اللهِ محمودَ بنَ عمرَ الزَّمَخْشَريّ أراد ، لأمرٍ ما، أن يَطعُنَ في أبي العلاءِ أحمدَ بنِ عبدِ الله المعرّيّ ، وأن ينحرفَ بكلامه عن جهته ، وأن يذهبَ به إلى حيثُ لم يُردْ...!