اخر الاخبار

الوحدات الطبية خلف جبهات الحروب تجهّز بمستلزمات العلاج السريع وإسعاف المقاتلين الجرحى، ويرافقهم الأطباء المجنّدون الذين يقومون بهذه المهام في الغالب، وسط الدخان والحرائق.

كان النقيب الطبيب (طالب ) ضمن فريق الوحدة الطبية ، يقضي خدمته الإلزامية فيها، لا مفرّ لطالب أن يهرب ، وهو  في طليعة زملائه المحرضين على إدانة القتل،  ومشعلي الحروب، وكل طغاة العصر.

الحرب على أشدها والنيران مشتعلة.. جماجم طافية فوق الماء، جلود خارجة من هياكلها، سيوف تنحر أجساد ممزقة.. يشتد صهيل الحرب ، يختصر الموت الأحياء ، كانت الأرض تبكي يشاغلها الموت.. والأجساد تحوم على قشّة يلهث الموت فيها.

كان الطبيب طالب مثل كائن مذعور في إحدى زوايا صالة العمليات يرتجف تحت بصيص ضوء يهذي :

- هذا وطني يتناثر في أبهاء الريح، ما بين قتيل في الساحات وبين جريح، كيف ألمّ أجساداً تناثرت، بعثرها القتلة؟!

كل مرّة أقسم أنها ستكون الأخيرة… ثم يأتي جريح جديد، ويد مهشمة، وساق بلا عظم، ونظرة توسّل لا تعرف أن البتر هو النجاة الوحيدة. المنشار الصغير يدور . لا ضجيج في الأذن، فقط صمت يتخلله صوت نبضه، ثقيلًا كخطى جريح، حينما بتر الساق، ظل الجسد خامداً، إلا أن الساق كانت  ترفّ، رمى بها بسرعة إلى طاولة خلف ظهره، في التفاتة خاطفة للساق المبتورة، ارتعش جسد الطبيب … ظل يهتز بقوة ، ياللهول ! يكاد لا يصدق !

الساق بعيون مفتوحة تحدّق في وجه طالب… تقدّم نحو الباب، في داخله نزوع قوي للهرب، وصوت يدوّي فيه:

– كنت أركض بها… ألعب الكرة، أصعد الجبال، أهرب من الحنين.

الطبيب (بصوت منخفض وهو يمسح جبينه):

– سامحني ، أنقذُ ما يمكن إنقاذه. الجسد الميت… يُدفن .

الجريح في نوبة صحو من التخدير :

–  أين ساقي؟

الطبيب (بهدوء يشبه الموت):

– تركتها هناك… في الخندق الأخير، مع رفاقك.

 الجريح (يضحك بمرارة):

–  طيب، خذوا الباقي… يمكن يصيروا شهداء قبلي !

الطبيب طالب يهمس مع نفسه :

“كم مرة بتّرتُ أعضاء مشوّهة للجرحى؟ كم من السيقان المبتورة جرّتني إلى هاوية لا تعود؟” يخلع قفازيه ببطء، ينتقل إلى صالة مجاورة، يأخذ نفساً عميقاً من السيگارة التي لا تفارق شفتيه طوال ساعات اليوم ، باستثناء ساعات العمل،

يُطفيء الضوء، الأطراف المبتورة تضيء رأسه : السيقان، الأذرع، الأقدام، كل واحد منها له حكاية، يأخذ الظلام بذاكرته إلى القَسم الذي ردده في حفل تخرج طلبة كلية الطب، وهم يودعون حياتهم الدراسية المفعمة بالمثابرة والحب:

- جئت لأُداوي، لا لأُقصي الناس عن أجسادهم… لكنها الحرب لا تفهم قسم أبقراط.

يعود الطبيب إلى مريضه بعد محاولة يائسة للنوم ، ولو لساعة واحدة، كان قلقاً، مرتبكاً، لديه شعور خفي بالخوف من الساق التي ظلت (عيونه) تلاحقه، لم تكن المرة الأولى للطبيب الشاب ، يتساءل مع نفسه : قبلها أجريت عشرات العمليات لبتر الأعضاء، فيما الجرحى يُساقون إليه، عيونهم مغمضة، كأنهم يعرفون أن ما يُقطع منهم لن يُعود ثانية. ما سرّ هذه الساق ياترى؟

يصحو الجندي الجريح ، يتخلص من آثار التخدير، كان الطبيب إلى جواره واقفاً، مهدئاً، يخفف آلامه التي بدأت تتزايد:

1 كل شيء تمام ، اطمئن  إن وضعك مستقر ، لقد نجوت من الموت .

–  ماذا جرى دكتور؟

– أوقفت النزيف .

– بترت رجلي؟

–  إنما أنقذت حياتك .

  (لحظة صمت)

الجندي الجريح :

– رجلي كانت أول مَن يدخل البيت. كنت أطأ بها تراب أهلي . تعرف الطريق… أكثر مما أعرفه.

كان الطبيب طالب قد وجد ورقة مطوية في جيب أحد الجرحى،  أثناء خلع بدلته الممزقة التي غطّتها بقع الدماء،  كان الجريح، يصرخ ويستغيث، مسجّى على الطاولة قبل اجراء العملية ، في هذه اللحظات كان الطبيب يقرأ بسرعة الأسطر القليلة التي كتبها الجندي :

  " إلى من ينقذني،

أعرف أن جسدي ليس كما كان.

لكن قلبي كامل.

قل له إن روحي لم تُبتر، فقط انتقلت إلى مكانٍ لا يُرى، لكنه موجود.”

اعتاد طالب  في الصباح ، أن يكتب في دفتر مذكراته  وقائع حياته اليومية، قبل دخول غرفة العمليات، تلك عادة لم تفارقه منذ البدايات الأولى في دراسته الجامعية:

1

أعضاؤكم ليست نفايات…

بل شهادات على الحياة.

قلبي يبتر مع كل عضو يُقطع .

2

الساعة تقترب من الثالثة فجرًا.

رائحة المعقمات تختلط برائحة اللحم المحروق.

هذه ليست مجرّد ساق. إنها طريق، ذاكرة، خطوة أولى نحو بيت، أو نحو قبر.

3

أصبحت أعرف صوت العظم حين ينكسر، وصوت اللحم حين يُقص. لكن ما لا أسمعه بعد… هو صوت الغفران.

4

في ركن بعيد، صندوق معدني بارد، توضع فيه الأطراف بعد العمليات.

كل طرف يحمل لونًا مختلفًا من الحياة.

5

ليلًا،  أرى نفسي  …  أركض في حقل واسع.

الريح تضحك.

لكن حين  أنظر خلفي… لا ساق لي .

وحين أصرخ، لا صوت أسمع !

6

مشهد أخير:  في غرفة الأطباء  علّقتُ ورقة على الجدار   عنوانها “وصيّة الأطراف” ، تقول الوصية :

" لا تسألوا الجريح عن الذي فُقِد منه… اسألوه عمّا بقي فيه.

فبعض القلوب، على الرغم من البتر، تواصل النبض بكاملها.”