اخر الاخبار

عن دار الرافدين للطباعة والنشر في بغداد صدر للكاتب شاكر الناصري كتابه (مجرد وقت وسيمضي/ يوميات السرطان)، لا يقدم فيه مذكرات مريض، بل يعرض امامنا تفصيليا وثيقة إنسانية مؤلمة وصادقة، يسرد فيها مراحل تطور المرض وتفاصيل العلاج الكيمياوي القاسي، الذي يصوره بأنه امتهان للجسد واحتراق للروح. فكل جرعة من الكيمياوي، كما يصفها، تمثل جرحًا جديدًا في كرامة الإنسان وصورته عن نفسه، وتحولاته الجسدية تصبح رمزًا للانكسار والعجز عن العودة إلى الوضع الطبيعي.

أسلوب شاكر الناصري يتسم بالصراحة الشديدة والتشظي الإنساني، وهو لا يتجمّل ولا يبحث عن البطولة الزائفة. بل يقدم اعترافات مريض يعيش على هامش الحياة، بين جرعتين وبين تحليلين، وبين أمل طبي وتخوف داخلي. وفي كل صفحة، تشعر بثقل الزمن، حيث يصبح كل يوم مجرد وقت… وقد يمضي، أو لا يمضي.

اللغة في الكتاب قاسية وواقعية، تخلو من التزويق، تعكس الواقع المرير بلحظاته الدقيقة: من تساقط الشعر، إلى نظرات الشفقة، إلى التحولات النفسية الحادة التي ترافق العلاج. مرورا بالإلام الحادة التي تشتعل من داخل الجسد بفعل تأثير الكيمياوي ومع ذلك، فإن بين السطور خيط رفيع من الأمل، ذلك الذي لا يصرخ لكنه لا ينطفئ.

الكتاب ليس فقط عن السرطان، بل عن الضعف البشري حين يُجرد من أوهام القوة، وعن مواجهة المصير بعيون مفتوحة. إنه درس في الصبر، وفي الكتابة بوصفها مقاومة.

في كتابه ((مجرد وقت وسيمضي))، لا يدوّن شاكر الناصري مجرد يوميات مريض، بل يصوغ شهادة مؤلمة من قلب الجحيم السرطاني، بأسلوب صريح وعارٍ من المجاملة أو الزخرفة. هو نصّ يجمع بين التوثيق والاعتراف، بين وجع الجسد واحتراق الروح، في زمن يتآكل فيه الإنسان بين فحوصات، وانتظارات، وجرعات كيماوية.

النص لا يكتفي بسرد أحداث، بل يكشف عمق الانكسار الإنساني الذي يرافق المرض. الكاتب لا يعرض المرض كحالة طبية فحسب، بل كمحنة وجودية كاملة، تهز الثقة بالنفس، وتشوش الهوية، وتفرض عزلة شعورية حتى وسط أقرب الناس.

يوثق الناصري لحظات الرعب التي لم تكن لحظات فقط، بل محطات انتظار مفتوحة على كل الاحتمالات: الحياة، الموت، أو شيء رمادي بينهما. وهو في ذلك ينجح في تحويل التجربة من مجرد خصوصية ذاتية إلى قضية إنسانية عامة، يمكن أن تطال أي قارئ في لحظة ما.

ربما الجزء الأكثر قسوة في الكتاب هو توصيف العلاج الكيماوي، حيث لا يُرى كأمل في الشفاء، بل ذلا علاجيا، إن صح التعبير. الجرعة، في هذا السياق، ليست دواء بل سوط خفي يمزق الكرامة. الجسد يتحلل، الشعر يتساقط، الرغبة في الحياة تنطفئ تدريجيًا، بينما يعلّق الطبيب أملاً مؤجلاً على نتائج التحاليل القادمة.

الناصري يصف هذه التحولات بانسياب مؤلم، دون أن يُسقط القارئ في حزن ومرارة وبكاء، بل يضعه وجهاً لوجه مع بشاعة التعايش مع الألم المزمن.

يمضي الناصري نحو العمق النفسي دون مواربة، كاشفًا هشاشة الإنسان حين يُنزع عنه درع الإنكار. المرض هنا يكشف كم أن الإنسان مخلوق هشّ، متردد، يبحث عن عزاء حتى في أبسط مظاهر الحياة: ضوء النهار، ابتسامة عابرة، أو لحظة خالية من الألم.

ومع كل انهيار، يبقى شيء صغير من الأمل – لا يُعلن صراحة، لكنه كامن بين السطور، كما لو كان جزءاً من غريزة اللغة التي يستخدمها الناصري جافة، مباشرة، وواقعية. لا يطيل في الوصف، ولا يحاول تلطيف القسوة. وهذا ما يمنح النصّ قوته. لا يبحث عن استعطاف القارئ، بل يدعوه ليشهد معه، بوعي كامل، على رحلة الألم.

الصدق هو ما يمنح النصّ قيمته الأدبية والإنسانية. إنها كتابة تحت ضغط الحياة نفسها، ليست نتيجة تأمل بارد بل احتراق مباشر على الورق.

ومع عمق التجربة وصدق السرد، نجد أن الكتاب لا يخلو من بعض التكرار والتباطؤ في بعض المقاطع، خاصة عند التركيز على وصف الأعراض الجسدية بشكل متكرر. ربما كان بالإمكان تحقيق توازن أكبر بين البوح الشخصي والبناء السردي العام، لتجاوز حدود الاعتراف والدخول إلى فضاء أدبي أكثر اتساعاً، وهو بهذا الشكل يحاول ان يجسد انكساراته امام خطر السرطان، ومع ذلك، تبقى قيمة العمل من خلال كونه تجربة حقيقية، موثقة، وصادقة إلى أقصى حد، وهو ما لا يتوفر كثيرًا في الأدب العربي الحديث عن المرض.

((مجرد وقت وسيمضي)) ليس كتابًا عن مرض السرطان حسب، بل عن مواجهة الموت بعينين مفتوحتين. هو صرخة في وجه الخوف، ومحاولة لاحتواء الألم عبر الكتابة. في لحظة ما، يصبح القلم وسيلة لمقاومة الانهيار، ومتنفسًا حين تضيق الحياة. وهذا ما يفعله شاكر الناصري ببراعة وشجاعة، ولذلك يقول ان القارئ لن يجد متعة او سرور في القراءة لكنها متعته الشخصية بتفصيل التجربة والتي تتطلب شجاعة وموقف ثابت مع خيط يتعلق بالأمل الذي يرتبط بخضوعه للعلاج طوال حياته .

إنه كتاب لا يُقرأ للراحة، بل للتأمل والتعاطف والفهم. وبهذا المعنى، فهو إضافة حقيقية ومؤثرة إلى أدب الاعتراف والكتابة عن المرض ، مع تمنيات ان ينتصر الامل.