اخر الاخبار

من المعروف أن د. رشيد هارون هو من المتخصصين بالأدب أكاديميا وكتب المقالة والقصة والشعر وله تجربة بكتابة النقد أيضا وصدرت له مجموعة كتب في هذا المجال وآخر ما كتبه ديوانه الشعري: (غداً أريدُ أن أراني!) عن دار الصواف في طبعته الأولى 2025 تتساءل:

" أكل هذا الظلام

أيها الليل

نكاية بالنهار؟ "

وجعل ظلام الليل رمزا لسوداوية الحياة وما فيها من مآسٍ وويلات مع أن المصائب لا ترتبط بالليل فقط لقد تعود الناس على مصائبهم في النهار وربما أكثر من الليل الذي يعد فرصة للراحة والهدوء والنوم والسكينة ولو قلب الشاعر الصورة وقال: "أكل هذا الضياء، أيها النهار، نكاية بالليل؟" لحققت النتيجة ذاتها ولعلها كانت رمزيتها أقوى بناء على ما يعانيه الإنسان من تردي علنا وفي وضح النهار. كما في قصيدة لاحقة:

لا دخل للنيام

الليل

فكرة

الساهرين!!

كما حاول أن يقلل من شأن الفكرة الفذة في تغيير الأخرين ووجدت التباسا في الصياغة والهدف. بغض النظر عن نبل الشاعر في هدفه.

وباتت أغلب قصائده قناعات يصدرها للآخرين وحذر من ربط سعادتهم بهؤلاء لأنهم سيقعون في "زيف الفكرة" ومع ذلك طرح في بعض قصائده أفكارا تؤكد على الحياة وما فيها من سعادة:

" أبداً 

لم يكن واسعاً هذا النهر

لم تكن الحياة حزينة إلى هذا الحدّ

فلماذا تلطخت الأرديةُ بالطين

والمشهد بالعويل؟!"

وتجد في هذا الكتاب مقاطع شعرية تقترب من الحكمة:

هكذا خلقنا

ننظر إلى الأمام

فلماذا نحث الخطى

إلى الوراء؟

الحكمة الثانية ربما هي أكثر تكثيفا وأبلغ:

ماذا تفعل بكل هذا العتاد؟

وعزيمتك

خلّب!

وحاول الشاعر توظيف بعض الأمثلة السائدة في شعره ثم تسفيهها:" ما تفكر به صحيح! فأنت لم تخرج من عباءة أبيك، لأن أباك لا يعرف أصلا أن له عباءة قد يخرج منها ابن مثلك." ويستمر على سجيته في تسقيط الفكرة برمتها.   

أن أغلب قصائده تنتهي بتساؤل يحاول من خلاله دعوة المتلقي للتفكير بموضوعاته، وفعلا أنها تصب بهذه الفكرة: " لماذا يبكي كلما أعاد قراءة قصيدته؟"، "فمن ذا الذي يغير من نعت البحر شيئا!" وهنا أكتفى بعلامة التعجب ولم يضع علامة استفهام، وهناك تساؤلات كثيرة في غالبية قصائده.

ومن الظواهر التي تميز بها كتابه هو غياب العناوين للقصائد أو للقصص القصيرة كما أسميتها، فتبدأ كل قصيدة بنجمة سوداء صغيرة أحيانا تأتي بعدها كلمة تشكل عنوانا وأحيانا جملة هي بداية القصيدة وأرى أن هذا الاجتهاد قد يشوش المتلقي أحيانا إذا رفعنا هذه النجمة السوداء سيواصل القارئ القراءة متصورا أنها قصيدة واحدة. خياراته التجديدية وتجاوز القديم بكل أشكاله ومعانيه. وقد حقق نجاحا في جوانب كثيرة من ابداعه لكنه لم يكن موفقا في بعض محاولاته، ومنها عتبة العنوان.        

أما قصائده الطويلة والتي تمتد إلى تسع أوراق وتقترب كثيرا من قصيدة النثر أو من الشعر المنثور وفيها تفصيلات كثيرة، وربما هي أقرب للحكاية أو القصة. وله في هذا المعنى كثير من القصص مثل قصة تضمنت أجواء الخدمة العسكرية وكعادته لم يضع عنوانا محددا في كتاباته ليبدأ موضوعه بعبارة مطلقة " القصة ليست قصة من دون أن تكون أنت بطلها" وهذا رأي نقدي لا ينسجم مع نظرية السرد، ويتناقض مع القصة التي كتبها، فقد قسمها إلى مجموعة من سارديها: الجغرافيا ساردا، وحددها بأربع نقاط: 1- جغرافيا الهروب. 2- جغرافيا الخوف، 3- جغرافية كلب الريس. 4- جغرافية الشوارع.

ومن خلالها فصل في كل النواعم التي تخص الجندي وحياته اليومية في معسكرات الجيش، وطرح أفكارا كثيرة شكلت الموضوع واقترب من القص وليس من الشعر. ولنأخذ قصيدة (غداً أريد أن أراني) ومن العنوان تتضمن المواجهة مع النفس وكثرت فيها التساؤلات:

 " دارت ملعقتُك في كوب الشاي؛ فلماذا بقي الشاي مراً؟

وهناك تساءل ومراقبة وجواب " أترى؟ ... ثمة شيء ينبعث من هناك، قلب يتدحرج، موسيقى... إنني لا أفعل شيئا هذه اللحظة إنني أراقب".

ويتعمد في الحوار مع الآخر أو مع النفس ان تكون نهاية القصيدة أو المقطع بتساؤل:

" - قد لا يكفي ذلك

- لم أقل يكفي. الحياد جبن

- لمَ تكره الحياد؟ هل قلت َ: الحيرة خيار؟، والجبن؟ خيار أيضا."

وهكذا يدخل الشاعر في مشاعر متداخلة بين العواطف وجوانب فكرية ويبدأ بفلسفة الفكرة: " التناقض فكرة، الكذبة فكرة...مصباح علاء الدين فكرة، النفاق فكرة." وفيما الشاعر يفلسف الفكرة بينما هي موجودة بعمق في الفلسفة العلمية ...

وأحيانا لا نجد ترابطا بين بعض الجمل تقترب من الهذيان ويبدو أن الشاعر يعرف هذا التوجه وحاول أن يربطه بالحياة ليؤكد أن هذا النوع من التفكير موجود في الحياة. ويربطه أحيانا مع القتل وحب الغناء!.

رأيك أن الشاعر هنا يتجاوز قواعد الترقيم فيضع النقاط كما يحب ولا يلزم نفسه بأصول القواعد التي تحددها بثلاث نقاط فقط اذ لا يجوز:

"الطبل فكرة ...............! "ولا يجوز التساؤل بدون علامة استفهام" الأفكار تسمع-  ترى تُحَسُّ!!"

والشاعر يبحث عن مواطن الإيجابيات في السلبيات المنتشرة والشائعة والموجودة في المسافات والمرآة لكنه يكتشف أنها أوهام، "لا تنطلي على الجميع" وأكد قناعته بفكرة:" من لم يصغ لوشاية المرآة."

هذه المعالجات التي أوردها الشاعر وحرص على عدم تركها غامضة أمام المتلقي النابه في نظرته للحياة. دون أن ينكر أن هناك جمهرة غير قليلة متشبثة " بسلطة الغباء".

لكنه لا يتركهم على حالهم ويخيرهم في قصيدة أخرى أن يختار الشارع بدلا من الزقاق بما فيهما من رمزين مختلفين.

د. رشيد هارون شاعر متأمل وباحث في عمق الظواهر الإيجابية والسلبية وتحولاتها للبحث عن إيجابية المعنى في المفردة والنص: السكون والصخب، الحركة ونقيضها، ووقف ضد الفائضين عن التفكير والتأثير.