في سياق مشروعه النقدي المهم، الذي يُحلل فيه مفاهيم "التناسج" و"المثاقفة" و"الهجنة"، يسائل الباحث والناقد المسرحي والأكاديمي المغربي د. خالد أمين، في بحثه "المسرح العربي في محكّ التفكير العابر للحدود"، المركزية المسرحية الغربية عبر التفاعل مع السؤال الذي سبق أن طرحه الناقد العراقي د. عبد الله إبراهيم، في كتابه "المطابقة والاختلاف"، حول الأسباب التي تجعل من الثقافة العربية الحديثة -بما فيها المسرح- تتصف بالاستجابة السلبية للثقافة الغربية.
يؤكد أمين أن استحضار الإرث المسرحي الغربي ضروري في هذا الباب، لأن نزعته المتمركزة جعلت رحلته من المحلية إلى الكونية تفرض إبدالًا واحدًا لممارسة المسرح طغى على الأشكال الفُرجوية الأخرى ووضعها في الهامش، إلا أن ذلك لا يمكن أن يمثل وحده التفسير الوحيد لأزمة الحداثة المسرحية العربية، ذلك أنها عانت من وطأة الافتتان بالبحث عن المطابقات والسكون إلى المرجعيات المستعارة التي نقلت معها أزماتها.
كما يدافع أمين عن الفرضية الآتية: لا يمكن لمسرحنا العربي أن يتطور بمعزل عن الاحتكاك مع الآخر ومواجهة النموذج المحلي الغربي، من خلال إبداع تفكير عابر للحدود، كونه "الإبستمولوجيا الظرورية للانفكاك وإزاحة الحالة الاستعمارية عن المعرفة، ومن ثم بناء تواريخ محلية ممانعة تعيد الكرامة إلى الملايين من الناس الذين سلبتهم إياها الفكرة الغربية للتاريخ الكوني" على وفْق الفيلسوف الأرجنتيني والتر مينيولو.
ويرى أمين أن الحداثة العربية لم تكن ممكنةً من دون حالة استعمارية؛ إذ تُعد هذه الأخيرة مؤسسة للأولى بدل كونها مصوغةً منها أو تشبهها في التركيب البنائي. والمسرح لا يحيد عن هذا التصور، ذلك أنه استُقدم إلى عالمنا مدعومًا من لدن جيوش الاحتلال، منذ حملة نابليون بونابارت على مصر (1798– 1801). ومنذ ذلك الحين شكّلت الحملة العسكرية النابليونية بداية تفاعل متضارب بين الحداثة والاستعمار. وقد جاء تبني العرب للمسرح، في صيغته الغربية، نتيجة هذا التفاعل المفارق. وبينما كان نابليون يستعد لمغادرة مصر في 22 أغسطس 1799، كتب ملاحظةً مهمةً لخليفته، الجنرال كليبر، موضحًا ضرورة النشاط المسرحي: "لقد طلبت بالفعل عدة مرات فرقة من الكوميديين. وسأحرص بشكل خاص على إرسال فرقة إليك. فهذا البند له أهمية كبيرة بالنسبة إلى الجيش، كما أنه وسيلة للبدء في تغيير عادات البلاد"، حسبما جاء في كتاب "المسرح المصري في القرن التاسع عشر" للمؤرخ البريطاني فيليب صادغروف، المتخصص في الدراسات العربية بجامعة مانشستر.
ويشبّه أمين التطلعات النابليونية بأطروحة كارل ماركس حول الاستعمار البريطاني ومهمته المزدوجة في الهند، التي يفترض أنها متخلفة من منظوره، واحدة مدمرة، والأخرى تعمل على تجديد إبادة المجتمع الآسيوي القديم، ووضع الأسس المادية للمجتمع الغربي في آسيا. وقد أدت المهمة التدميرية إلى تفكك المجتمعات الأصلية، واقتلاع الصناعة المحلية، واختزال الثقافات الفرجوية المحلية في خانة الفولكلور، في حين اتّبعت عملية التجديد مسار تحديث الهند. وكان التأثير فيه عميقًا جدًا إلى درجة أن الهنود وجدوا أنفسهم بين واقعين وبوابتين: بوابة الغرب التي يتعذر فتحها بالكامل، وبوابة الهند التي تأبى أن تُوصد نهائيًا.
وهكذا أدخلت التقاليد المسرحية الأوروبية بوصفها قوةً ناعمةً ووسيلةً ناجعةً لإعادة الشرق إلى ذلك الغرب المتمركز حول ذاته. كما عّد الإبدال المسرحي الأوروبي أفقًا كونيًّا يجب تبنيه من طرف الإنسانية جمعاء.
ومع بداية الستينيات من القرن العشرين، بدأت رحلة المسرحيين الغربيين الميدانية المختبرية في اتجاه الشرق، وعلى رأسهم أوجينيو باربا وجيرزي غروتوفسكي. وكانت رحلة التعلم والنهل من خبرات الجسد الفُرجوي الشرقي التي تفتق عنها أهـم إنجازات المسرح الغـربي المعـاصر.
لكن كيـف ينبغـي أن تمثّل هـذه الرحلة من وجهة نظر خالد أمين، هنا، الآن؟ يتساءل: أذلك تمرد (مـن الداخل) عـلى المركزيـة الغربيـة وبنيـات التفكير المثالية/ الماهوية المرتبطة بها، أم اتساع لمساحات المركزية الغربية الهادفة إلى احتواء الآخر ومحو اختلافـه؟ وهي الحقيقـة التي يقـرّ بها أغلب الباحثين المسرحيين، ولا يخرج عنها حتى دعـاة مسرح المثاقفـة، ومنهم الباحـث الفرنـسي باتريـس بافيـس الذي يقـول في هـذا الشأن: "إذا كان هنالك خطاب يجب أن نسعى إلى تجــاوزه، فهـو التمركـز الأوروبي المنكفئ الـذي يجعـل مـن أوروبا حصنًا منيعًا ضد أي شكل مـن أشكال المثاقفــة مع آخرهـا... لقـد كان اسـتشراف آفـاق المثاقفـة خارج مدار المركزية الأوروبية رهانًا استراتيجيًا لحل مشاكل المسرح المعاصر".
وفي هذا السياق يعرض أمين الجهد النقدي البارز للمخرج المسرحي والناقد الهندي رستم بهاروتشا، في كتابه "المسرح والعالم: الأداء وفن السياسة الثقافية"، الذي فكك فيه أعمال أربعة من المخرجين الغربيين الشهيرين (أنتونين آرتو، جيرزي غروتوفسكي، بيتر بروك، وريتشارد ششنر)، المستندة إلى الملاحم والطقوس الشرقية، عبر تركيزه على ما يسميه "أخلاقيات العرض" التي تكمن وراء كل تبادل ثقافي، والعلاقات الاجتماعية التي تؤسسه، منطلقًا من مقولات إدوارد سعيد ومواطنيه غاياتري سبيفاك، هومي بابا، وبارتا تشاترجي، المعنية بتفكيك الخطابات الغربية الاستشراقية، القائمة على رغبة دفينة في موضعة الآخر (الشرقي) في إطار من التهميش والانتقاص، وإعادة تشكيله في المتخيل الغربي بطريقة تستبعد هويته وتطمس حقيقته، ليجري إدراكه بوصفه عالمًا عجائبيًا، مؤكدًا أن الاتجاه السائد في إنتاج تلك الأعمال المسرحية يفصل بين التاريخ الشرقي والحضارة الشرقية بأساليب تخفي تحت قشرتها الخارجية نزعةً مركزيةً غربيةً، واستشراقيةً براغماتيةً، بحثًا عن مادة مسرحية خام، على النحو الذي عُرف عن الشركات المتعددة الجنسية التي تستغل المواد الخام والعمالة الرخيصة في العالم النامي.
ويستنتج أمين من ذلك أن الرحلة المسرحية الغربية نحو الشرق اتجهت إلى استغلال الأشكال الفُرجوية غير الغربية وتبنّيها خدمةً لكونية مزعومة كرّست الانجذابات الثقافية الإمبريالية أكثر من العمل على تقويضها، وذلك من خلال نقل أشكال تعبيرية بعينها إلى بنيات الإنتاج المسرحي الغربي بمعزل عن مراعاة سياقات تحققها؛ وهذا في جوهره ما هو إلا أحد تمظهرات الحالة الاستعمارية. ولا يزال هذا النوع من المثاقفة المسرحية المهيمنة مستمرًا حتى الآن؛ ويتلقى الدعم الكافي من الجهات الراعية للثقافة الاستهلاكية.
إن التفكير العابر للحدود، سواء أعند المفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي (الذي ينعته بالنقد المزدوج) أم عند والتر مينيولو، يدفع، في رأي أمين، إلى الإقامة على الحدود، وهي إقامة محفوفة بالمخاطر وكأنها رقص على حد السيف في المساحة الفاصلة/ الواصلة. ولإبراز بعض معالم هذه المواقع العابرة للحدود، يتناول أمين بعض النماذج العربية التي تحاول جاهدةً استشراف رحابة آفاق ذلك العصيان الإبستيمولوجي المنشود. ومن بين تلك التجارب: "قمة هاملت" للمؤلف والمخرج الكويتي البريطاني سليمان البسام، "إنسوا هاملت" للمؤلف والمخرج العراقي جواد الأسدي، "دموع بالكحول" لفرقة مسرح أنفاس من المغرب، "بيوخرافيا وثلاث ملصقات" و"وجه أ وجه ب ومَن يخاف التمثيل؟" للفنانين اللبنانيين لينا مجدلاني وربيع مروة.
ومن بين ما يخلص إليه خالد أمين، في خاتمة البحث، أن الخيارات الديكولونيالية المتاحة على مستوى الإبداع المسرحي العربي الراهن خيار المصالحة مع وجدان الفُرجة المحلي من جهة، ووضعه في مواجهة دائمة مع الإبدالات المسرحية الغربية، من جهة أخرى. ويبرز هذا النوع من الاحتكاك والخبرة الحسية لدى جسد مؤدّ مقيم على الحدود بين حساسيات فُرجوية/ أدائية تنتمي إلى الشرق والغرب، وهو (أي الاحتكاك) يستشرف آفاق فك الارتباط مع النماذج الأدائية المحلية والأدائيات الغربية من دون الوقوع مجددًا في مآزق "الاختلاف المتوحش". وتُعد الخبرة الحسية مجالًا لإبراز الحساسيات المسرحية/ الأدائية المغايرة، وتقتضي ضمنيًّا تفكيرًا/ إبداعًا عابرًا للحدود عبر التعاطي مع الإبدالين معًا (الغربي والشرقي)، وفي الآن نفسه، إبداع أفق مغاير ومختلف عن كل منهما.