الليلُّ داجٍ ينتظرُ هطول السحرِ
ومنهُ ينبثقُ الفجرُ الجامح فيبدأ النهر بالسريان وتتراقص أمواجهُ وهو يرى شوق الشعاع الشمسي له أنهُ يزحفُ لملاقاته ثم أختراقهِ ليتدفأ تحت تلك الأمواج الفرحة بهذا اللقاء الحميم.. النهرُ وتوأمُهُ لا يفترقان وهما يومئان لبعضهما.. هناك اللقاءُ على حافة الجرف الطيني الذي يفوح منه العطر السرمدي وترتادهُ اليمامات وهي ترددُ أغنيتها النابعة من أعماق تأريخها المهاجر(ياقوقتي وين أختي)فيجاوبها التوأُمُ المارقُ لذاك النهر المتسربل بين شقوق الأرض الحنون..(بالحلة وشتاكل باگلة وشتشرب ماي الله) فيكتمل اللحن المقدسُ ويسيرُ اليوم من فجره وحتى مسائهِ بثبات الفرسان الذين يرتجلون الجمال بالاهازيج الشعرية الملوّنةِ كالتمر الفراتي العميق الحلاوة الذي يفوقُ العسلَ بطعمهِ كأنها نزلت من فردوسٍ السماء السابعة.. وهو يسيرُ بخطاه اليومية متزينّاً بقميصهِ المخطط بألوانٍ ربيعيةٍ رافعاً قامتهُ التي ظلت مرفوعةً رغم هواجس النفس الحزينة الى جانب الحصار المرير والعوز السائب من تلك الوجوه اللئيمة الجاثيةِ على التربة السمراء.. وينسدلُ القميص على ذلك البنطال الواسع ويلفُّ رقبتهُ باليشماغ الفراتي الجميل حاملاً الكتاب الذي يرافقه في أكثر الأحيان.. يمرُّ مسرعاً من أمام توأمهِ ليُصبحَ عليه بالسلام متجهاً الى الجندول حيث القلوب التي تعانق عينيهِ حين يقبل عليها.. الساعة العاشرةُ صباحاً موعدُ الحديث الدامي عمّا يجري .. هو كعمّتهِ النخلةِ يقفُ صامداً أمام الفؤوس التي تحاول تقطيعَهُ فهو يعشقها .. في قواعده اليومية حرّمَّ قتلها ولعنَ الذين يأكلون الجمّار فهو قلبها الساكن بين أضلاعه.. أنهُ المثلث النوراني بينه وبين النهر وبين العمّةِ.. آه كم أستهزأَ بذلك المغرور الذي خلق لنفسهِ مساكناً لعبادته حين سمعه يقول.. هؤلاء يشكلّون المثلث العفن.. يبتسمُ حينها فارسنا لأنهُ خاضَ معارك الهمِّ ضدَّ ذلك الدكتاتور وجلاوزتهِ الساقطين الملتفّين بالخاكي المقيت.. وحين يجلسُ وسطهم أحباءه المنتظرون وصوله يبدأُ الأنزياح عن الآلام المترعة في أنفسهم فهم جالسون مع توأم النهر السرمدي.. أنهم يعلمون بأنهُ قبرُ يسيرُ في كلِّ الأماكن حين قرَّرَ أن يكون قبراً متنقلاًّ لذلك الشهيد السعيد الذي صعد الى السماء بدون لحدٍ يأويه.. أنه يعلمُ ذلك فالقديسون لا يعرفون الموت أنهم سائرون معنا وبيننا لذلك كان مطمئنّاً ..وتسيرُ الشمسُ فتكون متعامدةً مع الجندول فالآن النهارُ توسّطَ يأذنُ له بالقيام ليعودَ الى البيت المبعثر.. أنها نقطةُ الشدّةِ حين العودةِ والولوج سيواجه السؤال المكرَّر مذ صعود النجم المقدّس الى عنان السماء.. أينه هل التقيتَ به ؟هل رأيته ..؟ سأواجه العاصفةَ لأنها مفجوعةٌ مثله..أنه توأمُ النهر وأمواجهُ ترافقهُ تنشرُ الزهو والمسكَ في كُلِّ مكان.. سيقول نعم أنني أتَّصلُ به في كل الأوقات أنه يختبئ خوفاً من أولئك الخنازير.. لا فالخنزير مسكينٌ .. يهربُ من الاوباش أهل الخاكي الساقطين أنهم منتشرون في الأزقةِ والشوارع فماذا يفعل.. يضيعُ السؤال وتتيه العيون ويضيعُ العقل الموتور.. فتتهالك الثكلى وتغورُ في الظلام بغير سؤال..أنتهت كلُّ القصصِ.. ماذا سيقول التوأمُ لتوأمهِ النهر.. خذني معك أيها النهر ألستُ توأمك الملاصقُ لك ألستُ أنا الذي عانقتك منذ الصغرِ حين حاولوا قطع الحبل السرّي الذي يربطني بك لمّا كنّا أجنّةً في بطن الأم الرؤوم فأنَّ لنا ثورةَ الرفض.. قد يعتبرهُ البعضُ هذياناً لكنّها مسيرة حافلةٌ بالصمود أمام الفقد والعوز والمرضِ.. فأنت العاشقُ لغزلان مدينتك الخضراء وأنت الموَّلهُ بأزقتها (المتروسةِ) بدكاكينها الشعبيةِ ومحبّاً لتلك السمراء(أم الباگلة) وهي تقول لك هاك هذا خيطكم الأحمر خذها خبزتك التي توزّعها بيدك الكريمةِ لكلِّ من تلاقيه حتى تصلَ بيتك الجميل لتعجبَ أمّكَ من يديك الفارغتين..ونعود الى لياليك الحزينة التي تحاول أن تلوّنها بلونك المتمرّس في الجمال لتنادي على أصحابك وتعقد لمحنتك السائبةِ أجتماعاً روحياً لتشرب نخبك اللاهث فوق صدرك المتعب لتجامل الألم المكنون بين ضلوعك ..أين أنتِ ياسمرائي..وهي ضائعةُ عند أبعدِ نقطةٍ من تلك الجماجم المبعثرةِ هنا وهناك ..أنت تعلمُ مكانها وهي في سبات الأحلام تتصوّرُ قدومَ وليدها توّاً حتى تيبست قدماها من الانتظار فضاعت في سكونٍ رهيب..ياتوأم النهر الخالد ظلّت كلماتك الحافلةُ بالجراح تتغنّى بذاك العشق الروحي لا أحدٌ يستطيعُ ولوجه ..أقصدُ قلبكَ الماسي الذي أمتلأ بالأخاديد التي تشبه تلك المتراميةَ على تقاطيع وجهك المترع بالأبتسامة العارمةِ رغم الأقدار المحيطة بك وهي تبعثُ لك التهديد كلَّ يوم.. كنت معنا في آخر خطوةٍ من ذلك الأبداع الخيالي وعدتَ معنا ولكننا لم نعلم بأنها ليلتك الأخيرة وأنهُ نخبُك الأخير أيها الفارسُ الكبير..لقد قررتَ الترجُّلَ من فرسك الجامح لتلجَ حياتك الثانيةَ في سفرةٍ عالقةٍ
سأحاور ملكَ الموتِ سأتجرأ لأقول لهُ..أهكذا تحمل الزهور اليانعة من دون أستئذان.. أهكذا تقتلِ الفرسان.. بالتأكيد سيُجيبني لأني أعرفُ جوابه حين سألته عن رحيل ولدي في ذلك اليوم الخرافي.. سيردِّ بالتأكيد.. أنا رسولُ سلام.. هم الذين قتلوه وفصلوا الجسدَ عن تلك الروح الهائمةِ بالجمال فجاءت الاوامر السماوية أن أحملها الى أرض أعلى وأحلى فحملتها بسلام.. أيتها التربةُ كوني مثل سكونِ.