اخر الاخبار

على مدى مئات السنين ، لم تكن التجارة ، أو العلم والتكنولوجيا ، أو حتى الدين ، في مركز الوعي الجمعي الروسي ، بل الأدب في المقام الأول . الأدب الروسي هو الإسهام الروسي الحقيقي في الحضارة العالمية ، وتتجلى فيه الروح الروسية في أعمق وأسمى صورها. الادب الروسي من أكثر آداب العالم تميزًا وثراءً عبر التاريخ ، ويتسم بتنوع ألوانه وأساليبه . وقد عكس كتابه الكبار في أعمالهم التجربة الحياتية للشعب الروسي ، وقيمه الأخلاقية ونظرته إلى الوجود والعالم . وكان التأثير الذي أحدثه هؤلاء الكتاب في الارتقاء بالوعي المجتمعي ،وتشكيل الشخصية الروسية عميقاً. وما يجعل كبار الكُتاب الروس مميزين للغاية هو القوة والصدق ، والأمانة والدقة التي صوروا بها أهم جوانب التجربة الإنسانية. ولهذا ما زلنا نقرأ أعمالهم بمثل هذه المتعة والبهجة. ولم يقتصر أثر الأدب الروسي على مجتمعه وإنما امتد اثره إلى جميع بلدان العالم.

منذ عشرينات القرن الفائت نشطت حركة ترجمة أعمال كبار الكتّاب الروس ( غوغول وتورعينيف وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف ومكسيم غوركي) إلى اللغة العربية عن طريق اللغتين الإنجليزية والفرنسية ،. ولعبت دار الهلال المصرية دوراً رائداً في هذا المجال . وفي الستينات بدأت الترجمة المباشرة من اللغة الروسية ، وصدرت مئات الأعمال الأدبية الروسية المترجمة إلى العربية من قبل دور النشر السوفيتية المتخصصة في هذا المجال مثل " التقدم " و " رادوغا" و " مير" . فضلاً عن الترجمات الممتازة لروائع الأدب الروسي من قبل الأدباء العرب من خريجي الجامعات السوفيتية ، الذين لفتوا الأنظار إلى أعمال الكتاب الروس الكلاسيكيين الآخرين مثل أندرييف وبونين وأرتسيباشيف وغيرهم ، كما ترجموا أعمال الأدباء والشعراء المغضوب عليهم في العهد السوفيتي مثل بلاتونوف ، وزوشينكو , وتسفيتاييفا وأخماتوفا ، وماندلشتام. 

كان الكتاب العرب من أشد المتأثرين بالأدب الروسي .الذي اصبح ملهماً للعديد منهم ، ومازال حتى الآن يلهم الكثير من الكُتاب  الشباب. ويعترف الكثيرون منهم أن التعرف على الكلاسيكيات الروسية ترك أثراً كبيراً في إبداعهم - من حيث الأسلوب والمحتوى.

ويتجلى هذا التأثير في الأعمال الأدبية لكثير من الأدباء العرب . ونرى أولى بوادر هذا التأثير في نتاجات واحد من أبرز الأدباء العرب كميخائيل نعيمة، الذي كان قد اطلع على أدب روسيا ودرس فيها اللاهوت قبل ثورة اكتوبر 2017، وفيها كتب تأملاته الوجودية وقصيدته الآسرة “النهر المتجمد” على ضفاف الفولغا باللغة الروسية. يعد محمود طاهر لاشين (1894 – 1954) الرائد الاول لفن القصة القصيرة في مصر . وكما قال الكاتب المصري الراحل يحيى حقي في كتابه "فجر القصة المصرية".فإن الدور الذي لعبه محمود لاشين في تطوير القصة القصيرة المصرية شبيه بدور نيكولاي غوغول في الأدب السردي الروسي .ويؤكد أن كتاب لاشين المعنون" سخرية الناي" الذي يضم مجموعته القصصية الأولى :" سيكون ككتب غوغول في الأدب الروسي من حيث إنها أصدق تمثيل للخطوات الأولى ، وللأساس كيف بنى وعلا." ويبدو أن لاشين قد أطلع على قصص تشيخوف  الذي مهد له الطريق للتملص من النثر الموروث والنزعة الرومانسية  ، والزخرفة اللغوية . وأصبحت هذه المجموعة القصصية نقلة مفصلية في فن القصة القصيرة في مصر. وقد بلغ إعجاب لاشين بتشيخوف ان اقتبس عنه قصة " الانفجار". واقتداءً بتشيخوف استمد لاشين موضوعات قصصه من مشاهداته ، ومن واقع حياة المجتمع .ولم يقتصر التأثر بالأدب الروسي على لاشين . فالرواد الأوائل للأدب السردي المصري :" كانوا من المغرمين بالأدب الروسي الزاخر بالمشكلات الروحية." ومنهم الكاتب المصري محمود تيمور الذي استعار من تشيخوف قصة كاملة وقام بتعريبها.

ولعل أشد المتأثرين العرب بالأدب الروسي هو الكاتب المصري الشهير إبراهيم عبد القادر المازني الذي يعترف بهذا التأثير بكل صراحة ووضوح :" على أثر الثورة المصرية في سنة 1919 ذهبت إلى الإسكندرية لأقضي فيها أياماً أو لأتخذ فيها مقامي - حسب الأحوال - وكنت ما أزال سقيم الأعصاب جداً. وكنت لا أكاد أطيق الصهد الذي أحسه. وبقيت أياماً في البيت زارني في خلالها صديقي الأستاذ العقاد وترك لي رواية روسية أتسلى بها، فأكببت عليها وقرأتها في ساعات أحسست بعدها أني صرت أقوى وأصح بدناً وأقدر على المكافحة والنضال في الحياة، وأنه صار في وسعي أن أستخف بما يحدث لي سقم الأعصاب من الوهم. وعدت إلى القاهرة، ومضى عام فطلب مني بعضهم أن أترجم له رواية؛ فقلت لنفسي إني مدين لهذه الرواية الروسية بشفائي بالروح الجديدة التي استولت علي، فيحسن أن أنقلها إلى العربية عسى أن تنفع غيري كما نفعتني."

وكان نجيب محفوظ مطلعاً على أعمال كبار الأدباء الروس وبخاصة أعمال أنطون تشيخوف . وقد تحدث عن إعجابه وتأثره بالأدب الروسي أكثر من مرة . وكتب مقالا تعريفيا بتشيخوف نشره عام 1933 في جريدة " السياسة" وأعادت صحبفة " الأهرام" المصرية نشره في الأول من سبتمبر 2015 . وكتب أيضا مقالا آخرعن مسرحية «الخال فانيا»، فى مجلة «المعرفة» .ويقول محفوظ في مقاله:

" " كان فى طبيعة تشيخوف ما يمنعه عن الإبانة الصريحة عن ذات نفسه، فلم يخلف لنا مذكرات شخصية تنفع المؤرخ النفساني. حقا إن رسائله كثيرة ولكنها فى الغالب ـ تتناول مواضيع عامة أدبية وفلسفية وعلمية ، فالمرجع الثقة لمن يريد أن يتعرف الى هذه النفس الأدبية هو مؤلفاته وبعض رسائله الخاصة، ومن الحق علينا أن نتكلم عن إيمانه، فإن إيمان الرجل أو عدمه أدق مقياس يزن أفعاله وتصرفاته، وتشيخوف يقول صراحة إنه فقد الإيمان وهو صغير، وطال عهده بهذه الحرية الدينية ، وبقى يلهو ويعبث ويعمل من غير ما يكدر صفو قلبه بأسئلة الايمان الملحة التى قد تبلغ حد العذاب، وكأنك بعد ذلك تحس بالجد فى كتابته، فكأن نظرته إلى الحياة حالت وكأن الحياة فى نظره كبرت، وتتوالى أسئلته عن الحياة والموت. وتكاد تلمس المرارة التى يفيض بها قلبه المرهف الحس، وخرج عن قبة نفسه ليواجه المشاكل الاجتماعية الكثيرة، واستحوذ عليه اهتمام كبير بها، أغراه بالتعرض لأهوال السفر لمجرد التعرف إلى أناس جدد وأخلاق جديدة."

وقال محفوظ في مقابلة صحفية اجراها معه الكاتب محمد سلماوي ونشره في صحيفة "الأهرام" :" الله على الأدب الروسي الله!..( سرد أسماء كتابها بسعادة واضحة) دوستويفسكي وترجنيف وتولستوي وتشيخوف، إن الأدب الروسي أجمل الآداب جميعًا لأنه أقربها لنا أفقًا وموضوعًا  وفلسفة." وتعكس أعمال محفوظ ، على نحو واسع وعميق ، الأوضاع السياسية والإجتماعية والثقافية في مصر، وما تعانيه الطبقات الكادحة من بؤس وشقاء نتيجة الجهل والتخلف ، والتقاليد البالية ، ويرتكز على النقد المرير لنمط الحياة المصرية والمظاهر الإجتماعية السلبية المصاحبة له. أبطال محفوظ على غرار أعمال تشيخوف يدركون فداحة الواقع  ويحلمون بتغييره إلا أنهم لا يمتلكون أدوات التغيير ، ويشعرون بالإحباط والخيبة . ربما كان يوسف إدريس اشهر كاتب قصة قصيرة في الادب العربي الحديث.وتجسد أعماله  الواقع المصري وما يعانيه الانسان البسيط المقهور في حياته القاسية البائسة. وقد اعترف ادريس بأنه تأثر بشدة بأدب تشيخوف؛ ففي حوار أجراه مع غالي شكري ونشر في مجلة "الحوار" في ديسمبر/كانون الأول 1965 قال إدريس "لقد خضت مع تشيخوف بالذات تجربة، فعلا، ذلك يعنى أنك عندما تقرأ تشيخوف، فإنك تصبح شئت أم أبيتت شيخوفياً، ولهذا، فعندما حاولت الكتابة بعد قراءتى لأعماله، أحسست أن رؤيته قد فرضت نفسها عليّ، ولكن برهافة إلى حد أننى كنت الوحيد الذى لاحظ ذلك، وطالما أن الأصالة تستند على الرؤى الأصيلة، كان على أن أناضل لأحرر نفسى من السيطرة القاهرة التى فرضتها رؤيته وأفكاره على أعمالى، لقد كانت معركة شرسة ومريرة كلفتنى عاما كاملا تقريبا هو عام 1955 ." وعلى غرار أبطال تشيخوف يفشل أبطال يوسف إدريس أيضاً في تغيير الواقع الاجتماعي ،أو الدفاع عن أنفسهم.

التأثير الطاغي لأعمال تشيخوف في الأدباء العرب وخاصة كتّاب القصة القصيرة والمسرحية , يمكن تفسيره بأن القضايا التي تطرحها أعمال الكاتب الروسي وثيقة الصلة , بقضايا الإنسان البسيط المقهور في العالم العربي, ولا تختلف كثيراً عن الصورة التي يقّدمها تشيخوف في معظم أعماله. وقد تأثر كتّاب المسرح العرب أيضاً بمسرحيات تشيخوف ، ولجأوا إلى كتابة مسرحيات تتناول المشكلات ذاتها التي تطرحها مسرحياته فقد كتب الأديب السوري وليد إخلاصي مسرحية " هذا النهر المجنون" , تحت تأثير مسرحية ( بستان الكرز) لتشيخوف ، التي تدور حول السيدة الأرستقراطية ليوبوف أندريفنا رانفسكايا ، مالكة أرض روسية أرستقراطية ، التي عادت إلى روسيا مع ابنتها أنيا البالغة من العمر سبعة عشر عاماً بعد عدة سنوات من العيش في فرنسا ، وتعاني من ضيق مالي شديد ، وعرضت الأرض للبيع  بما فيها بستان كرز كبير وجميل من أجل سداد الديون ،غير مستجيبة لعروض إنقاذ الأرض.

أما الكاتب السوري حنا مينا فقد تأثرعلى نحو عميق بالأدب الروسي. مينا: " إنّما نعرف ونحبّ بوشكين وتولستوي ودوستويفسكي وغوركي وماياكوفسكي وشولوخوف وتيخونوف، واستفدنا من نتاجاتهم التي تُرجِمَت إلى اللغة العربيّة، وتأثّر الكتَّاب السوريون تأثيراً كبيراً بالنتاج الكبير للأدباء السّوفيات وخاصّة بالطّرق الإبداعيّة الغنيّة والصوَر الرائعة، وتأثّرنا إلى أبعد الحدود بمذهب الواقعيّة الاشتراكيّة." ومن يقرأ نتاجات حنا مينا ، لا بد أن يلحظ أن عالمه الفني شبيه بعالم غوركي من حيث القضايا المطروحة ، ورسم الشخصيات ، وأسلوب المعالجة.

كما تأثر الكاتب السعودي عبد الرحمن المنيف برواية "ذكريات من بيت الأموات" لدوستويفسكي؛ وقد ذكر منيف هذه الرواية بالاسم في روايته "شرق المتوسط"، وبعد 25 عاماً من نشر الرواية كتب منيف "كنت اظن ان الإشارة الى ما يحدث في تلك السجون كفيل بأن يقضي عليها" قاصداً تكرار الموقف الروسي ولكن ذلك لم يحدث."

لم يقتصر نأثير الأدب الروسي على بلدان المشرق العربي ، بل شمل أيضاً أدباء المغرب العربي ، الذين قرأوا الترجمات الفرنسية لـ”دار التقدم” أو الترجمات الفرنسية المباشرة لروائع الأدب الروسي الصادرة في فرنسا.

ومنذ الستينات والسبعينات تسنى للقارئ العربي الأطلاع على الشعر الروسي، ، والفضل الأكبر في هذا المجال يعود إلى الشاعر العراقي الراحل حسب الشيخ جعفر الذي تخرج في معهد غوركي للأدب العالمي في أواسط القرن الماضي . فقد ترجم عدداً كبيراً جداً من روائع الشعر الروسي إلى العربية وخاصة قصائد بوشكين وماياكوفسكي ويسينين وآنا أخماتوفا ورسول حمزاتوف الذين يمثلون تجارب مهمة في الشعر العالمي. وقد صدرت تلك الترجمات في كتب متفرقة في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين. ثم جمعها الشاعر في مجلد ضخم يزيد عن 800 صفحة، صدر ضمن منشورات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. ومن الشعراء العرب الذين قدموا خدمات جليلة في هذا الشأن الشاعر السوري ثائر زين الدين ، وشعراء عرب آخرين. كما ترجم كاتب هذه السطور عدداً من الروايات والقصص الروسية ، ومختارات من شعر يفغيني يفتوشينكو إلى اللغة العربية.