في ظهيرةِ صيفٍ قديمٍ سمعتُه يُنشدُ من إذاعةِ بلده :
يكلّفُه هواكِ ، وأنتِ لا تدرين ،
تلفّتَه الكثيرَ إلى النواحي ،
لقد عكستْ عيونُهم هواه
كما التمعَ الشُّعاعُ على الشَّراعِ
فعرفتُ به شاعرًا قويَّ الشعور ، ثريَّ اللغة ؛ وصرتُ أتطلّبُ شعرَه ؛ على قلَّة ما كان يقعُ لي منه ، وعلمتُ أنّ " مذكّرات بحّار " تنزلُ من شعره منزلةَ الواسطةِ من العِقْد. وحين أُقيمَ ، ببغداد ، في خريف سنة 1977 ، حفلُ تأبينِ أحمد الصافيّ النجفيّ كانت له قصيدةٌ عامرةٌ ، في الشاعرِ والشعرِ ، وكان صوتُه، وهو يُلقيها ، ينحبسُ ثمّ يَندفقُ ، ثمّ يرجِع فينحبسُ مرّةً أخرى ليندفق ؛ إذ كان لا يفتأُ يغالِبُ حُبسةً في مجرى الصوت ؛ تغلِبُه ويغلِبُها . وقد وسَمَ ذلك شخصَه ، وطريقتَه، ولعلّه امتدّ ، بنحوٍ ما ، إلى شعره .
ولد محمّد الفايز في الكويت ، في سنةٍ ضائعةٍ في السنين ؛ قيل إنّها سنة 1932 ، وقيل إنّها سنة 1936 ، أو سنة 1938 ، أو في سنة غيرها ممّا هو قريب منها أو بعيد ؛ فلقد كان التاريخُ غائبًا يومَ مولده ، وكان السجلُ مطويًّا . أمّا وفاتُه فإنّها في الأوّل من آذار من سنة 1991 . وحين شبّ أخذ بالتعلّم على الطريقة العربيّة القديمة القائمةِ على حفظ القرآن الكريم ، والآثار الأدبيّة من الشعر والنثر ، من أجل تقويم اللسان والقلم، وصقل الذهن ، وإذ لم يُتحْ له تعليمٌ مدرسيّ منتظم قام على نفسه يعلّمها ويصلُ بينها وبين الأدب ؛ فصحِب ديوانَ المتنبّي ، وديوان أبي تمّام ، وشعر المعرّيّ ، فأفاد في إثراء فكره ولغته ، وأقام نهجَه على لاحبٍ من العربيّة . على أنّه حينَ شرع بقول الشعرِ ؛ قاله مستمِدًّا من بيئته ؛ بالنظر في ألوانِها، وضروبِ العيش فيها ، وبسماعِ حكاياتِها، فكان يُصغي إلى نبضها الخفيّ ؛ يريدُ أن يحفظَ منه ما كاد يندرس ، وأن يُحييه . وهي بيئةٌ ، يومئذٍ ، قاحلةٌ شحيحةُ الماء والكلأ ، قاسية ؛ عمادُ حياةِ أهلِها البحرُ؛ في الغوص ، وصيدِ اللؤلؤ ، والمتاجرةِ بما يُصطاد. وقد كانوا ، في سبيل إقامة حياتهم ، يَلقَونَ الأهوالَ من البحرِ ، ومن ظمأِ الأرض ، قبل أن تتغيّرَ الحالُ . وقد شهِد الشاعر ، وهو في صباه ، أطرافًا من شقاء أهله في الصيدِ، والبحرِ ، والظمأ ، وانتظارِ الغائبينَ ، ثمّ سمِع القصصَ تُروى ، والحكاياتِ تُنسج ؛ بأفراحها وأشجانها . فأراد أن يسكب ذلك العناءَ القديمَ في صيغةٍ من الشعر . وكان قد رأى ، في أوّل أمره ، أن يتّخذ له اسمًا يُفصحُ عن خُلاصةِ ما استقرّ عنده ؛ بعد النظر ، وإجالة الفكر ، في الحياة ومجراها ، من حيث المبدأ والمآل ؛ فصار ينشر أشعاره تحت اسم " سيزيف " ، إشارةً منه إلى الجهد الضائع ، وافتقادِ المعنى الذي يضمّ الأشتات ، ويسوّغ السعيَ ؛ لكنّه ، من بعدُ ، تخلّى عن " سيزيف " ، وما يرمز إليه ، وعاد إلى اسمه ينشر تحته ، في الصحف ، شعره ونثره ؛ وكأنّه استقرّ إلى غاية ومعنى .
ورأى ، وهو في مقامِ استعادة قصصِ البحر، وأهوالِه، ورغائبه ، أنّ يجعل ذلك بهيئةِ المذكّرة، يُنشئها البحّارُ نفسُه ؛ يحكي ما كان منه؛ في القوّة والضعف ، والشدّة والرخاء؛ مزهوًّا بما نال أو كئيبًا بما أخفق، وأن يستوعبَ تلك التجربة ، وأن يُحيطَ بها، بجملة مذكّرات ؛ هي بوجهٍ من وجوهها حالاتُ البحّار في تقلّبها عليه ؛ فأخذ يكتبُ ما لديه مذكّرةً مذكّرة ، وهو يصطنعُ شخصَ البحّارِ المزهوِّ الكئيبِ ؛ في قوّته وضعفه، وأمنه وخوفه ، وفي الأملِ الذي لا يبارحه، واليأسِ الذي تُظلِم له نفسُه ، وفي شعوره المُمضِ بالتفاوت بين من يملك ومن لا يملك، حتّى استوفاه في عشرين مذكّرةً ؛ نشرها مُنَجَّمةً في الصحفِ ، ثمّ جعلها ، من بعدُ، في ديوان يضمُّها أصدره في سنة 1962، وسَمه بـ " مُذكّرات بحّار " . على أنّ الديوانَ لانتظامه على وزن واحدٍ ، هو البحرُ الكامل - عدا المذكّرةَ العشرين ، فإنّها شذّت عن بناء ما سبقها من المذكّرات ، واستقلّت ببنائها وبمدارها ، واتّخذت عنوانًا دالًّا عليها هو " العودة إلى الأرض " - ولِقيامه على موضوعٍ واحد متجاوبِ الأصداء ، ولِشدّةِ تلاحُمِ عناصرهِ ؛ قصيدةٌ واحدةٌ . ومدارُ المذكّراتِ كلِّها على الزهو ، والأسى ، والتذكّر باسترجاع الأحزانِ والمخاوف ، والأملِ الذي يتّقد لكي ينطفئ ، والإرادةِ الحازمةِ التي تنهض بالنفس وتلمُّ شَعَثَها ؛ على أنّ كلَّ ذلك جاء في نسيجٍ مُحْكمٍ ملتئمِ النواحي .
لقد صنع الشاعرُ شخصيّةَ البحّار ، وجعل لها ملامحَ واضحةً قويّةً ، وأجرى على لسانِها ما يريد قولَه ، فألبس الغناءَ ثوبًا من الدراما .
بدأ البحّارُ منشدًا بصوتٍ يعلو مفتخرًا بما كان منه ، معدّدًا مناقبَه وآلامَه ، يريدُ أن يَسمعَها من لم يشهد قصّةَ الغوصِ ، والصيدِ ، وأهوال السفن ، وكأنّه ، بذلك ، صوتُ الماضي الغائبِ يخاطب الحاضرَ القائم مزدهيًا بما كان له :
أركبتَ مثلي البومَ والسَّنبوكَ والشُّوعي الكبير؟
أرفعتَ أشرعةً أمامَ الريحِ في الليلِ الضرير ؟
هل ذقتَ زادي في المساءِ على حصير ؟
من نخلةٍ ماتتْ وما مات العذابُ بقلبي الدامي الكسير
أسمعتَ صوتَ دَجاجةِ الأعماقِ تبحثُ عن غذاء ؟
هل طاردتكَ اللخمةُ السوداءُ والدُّوْلُ العنيد؟
وهل انزويتَ وراء هاتيكَ الصخور
في القاعِ والرّمّاي خلفكَ كالخفير ؟
يترصّدُ الغوّاصَ ، هل ذقتَ العذاب
مثلي وصارعتَ العُباب ؟
البومُ والسنبوك والشُّوعي ، الّتي يُزهَى البحّارُ بركوبها ، هي سفنٌ شراعيّة يتخذونها في البحر لاصطيادِ اللؤلؤِ بالغوص عليه، والدجاجةُ سمكةٌ جارحةٌ تشبه الدجاجة، ومثلها اللخمةُ ، أمّا الدُّوْل والرمّاي فكلاهما حيوان بحريّ شرسٌ يطلبُ الغوّاصَ ، حين يشعر به ، لينال منه ؛ وهو في مصطرع ذلك يبغي أن يُقيمَ أسبابَ حياته !
وإذ يُنشد البحّارُ نشيدَه ، ويعلو به صوتُه؛ فإنّما هو بين الزهو الفَرِح والانكسارِ المخذول ؛ يُزهَى فَرِحًا بإرادته وقوّته ومضاء عزيمته، ثمّ يرجع منكسرًا مخذولًا بجفاف الأرض وقسوة البحر ؛ وهو لا يبرح بين هذين الشحيحين القاسيين ؛ اليابسةِ والبحر!
ما ذاقَ مرَّكَ مثلَ بحّارٍ تقاذفُه العُباب
عريانَ إلّا من سواد
تتهيّبُ الأسماكُ منه ، والبحار
أحنى من الأرضِ التي مَحَلت، فلا عطرٌ يضوع فيها ولا نبتتْ كروم
مهما تلبّدتِ الغيومُ وأمطرتْ كلُّ السماء
تبقى ككفِّ بخيلةٍ تأبى العطاء
أوّاه يا أرضَ الحرائق والسموم
وللبحّار من الوعي ما يمتدّ به إلى أبعد ممّا هو فيه فيقول :
يا أرضُ يا كهفَ الهموم
من أمسِ أمسِ ولم تزالي مثلَ ماخضةٍ بها مات الجنين
لا السحرُ ثبّط من جِماحكِ لا ولا الحقُّ المبين
من عهد قابيل وقمحُك كلَّ عام
يسطو عليه الدودُ يا أرضَ الظلام
مصباحي النفطي يلهث مثلَ عينٍ لا تنام
وله من الوعي ، في سعيه وإنشاده ، أن يُدرك معنى التفاوت بين الغنى والفقر ، وما يصحب كلًّا منهما من قوّة يُزهى بها الغنيُّ ، وضعف يبتئس به الفقير :
البحرُ مثلُ الأرض ملكُ الأقوياء
والدرُّ للحسناءِ نجمعُه ونحنُ إلى الشقاء
وتتقلّب به الحالاتُ بين الرضا والسخط، وبين الأملِ واليأس ، وقد كان الشاعرُ ماهرًا في تصوير ذلك كلّه ، واستبطانِ البحّار، والنطقِ بلسانه ، والإفصاحِ عمّا يتقلّب فيه، ويختلج في نفسه :
البحرُ أجملُ ما يكون
لولا شعوري بالضياع
لولا هروبي من جفاف مدينتي الظمأى، وخوفي أن أموت
عريانَ في الأعماقِ أو في بطنِ حوت
إنّي أحاذرُ أن أموت
لمّا أفكّرُ أنّ لي بيتًا ولي فيه عيال
لمّا أُحسّ بأنّ في الدنيا جمال
لكنّه ، على أيّةِ حال ، قويُّ الإرادة ماضي العزيمة ، يرى نفسَه ، حين ينظرُ إليها ، أقوى من السندباد وأمضى :
سأُعيد للدنيا حديثَ السندباد
ماذا يكون السندباد؟
شتّان بين خيالِ مجنونٍ وعملاقٍ تراه
يطوي البحارَ على هواه
بحبالهِ
بشراعهِ
بإرادةٍ فوقَ الغيوم
بيدٍ تكادُ عروقُها الزرقاءُ ترتجلُ النجوم
وحكايات البحّار كثيرةٌ ، وهي حاضرة عنده، يريد أن يرويها ليسمعها الناسُ فيعرفوا ما كان منه من قوّة وعزيمة ، وما كان عليه من عيش شحيح قاسٍ :
في ليلةٍ سوداءَ كالكهف الكبير
كانت سفينتنا الحزينة وسطَ أمواجِ الخليج
مملوءةً ببضائع التجّار والمتشردين
الباحثين عن الظلال
وعن الرغيف
وإذا بدا الشاعرُ، وهو ينتقل من مذكّرة إلى أخرى، واقعًا في إعادةِ جملةٍ من المعاني؛ يكرّرها؛ فذلك لأنّه ممتليء بها ، لا يفتأ يُديرها في ذهنة ، وينظر إليها مقتربةً منه حينًا ومبتعدةً حينًا آخر . ومهما يكن من أمر فإنّ من وجوه التكرار ما يقوّي المعنى، ويمكّن له عند القارئ والسامع .
ذلك ، كان ، مدارَ المذكّرات التسعَ عشرةَ؛ أمّا المذكّرة العشرون فقد اتّخذت مدارًا آخر؛ إذ جعل لها الشاعرُ عنوانًا هو: " العودةُ إلى الأرض"، وبناها على بحرين هما : الرجز، والمتقارب. ومن دلالة العنوان، في لفظه: الطمأنينةُ والاستقرارُ؛ ولكنّ القصيدةَ تذهب إلى ما سوى ذلك ؛ فلقد عاد البحّار إلى مدينةٍ كئيبةٍ ، قد تقلّص فيها ظلُّ الحياة ، وصارت البيوت كمقبرة قديمة :
الشمسُ في حارتنا تلوبُ
تبحثُ عن بيوتنا الموصدةِ الأبواب
كأنّها مقبرةٌ لعالمٍ قديم
عظامها مزامرٌ تنفخها الرياحُ
فتهربُ الشموسُ والأقمارُ
الشمسُ في دروبنا تنهارُ
وتستبدّ به الخيبةُ حتّى لا يكاد يرى ما سواها فيقول :
يا شجرَ التفّاح
نحنُ هنا تحرقُنا الشمسُ ولا تُضيئُنا
والأرضُ كالأثداء
حليبُها السمومُ والأقمارُ
يخنقُها الجدارُ
ثمّ ينتقل من الرجز إلى المتقارب ، وقد هدأت نفسُه شيئًا :
كــــفرتُ بأرضٍ لغيـــري الغــــلالُ ... ولي الشوكُ من ريعها والسّـهرْ
ســـلامٌ عــلـــى نفحــاتِ الخليـــجِ ... وإن كـــان للغيـــــرِ منـــه الــــدُّررْ
سلامٌ على الرملِ عند الضّفافِ ... كـــمـــخدعِ فجـــــرٍ عليـــه انــتحرْ
ســــلامٌ علــــى ذكـــرياتِ السنينِ... تلــــــوحُ كســـربِ حـــمــــــامٍ عـــــبرْ
ولاريبَ في أنّ هذه المذكّرة العشرين على غير نهج ما سبقها من مذكّرات؛ فلقد أدرك الشاعرَ فيها أسى، وأحاطت به خيبةٌ، وانحلّت حبالُ عزيمته؛ وإذا كان البحرُ الكامل، في نغَمِه الجهير المتلئب ، وفي حُسن انصبابه، قد حاكى قوّةَ البحّار، ووثاقةَ نفسه، في المذكّرات التسعَ عشرةَ؛ فإنّ الرجزَ في تخلّجه المضطرب، والمتقاربَ في هدوئه المنساب ؛ قد حاكيا شعورَ البحّار ، في غضبه المكتوم، وأساه الكئيب، ورضاه الحزين، وهو يعود إلى الأرض فلا يرى غيرَ الجدبِ، وغيرَ الشمسِ التي تحرق ولا تضيئ. لقد تكاملت المذكّراتُ في الإبانةِ عن التجربة بجانبيها ، وصوّرت بصدقٍ وأصالةٍ ما كان .
إنّ "مذكّرات بحّار" عملٌ فريد؛ يصطرع فيه اليأسُ والأمل، والقوّةُ والضعف ، والرجاء والخيبة، ويجلو معدنَ الإنسان في انتصاره على عواملِ الطبيعة، وعلى التشتّتِ والضياع؛ وقد كان الشاعر فية متينَ اللغة، جهيرَ الإيقاع، يتّخذ عناصرَ من الدراما لتصوير أفكاره ومشاعره. وهو في ذلك كلّه يضربُ في أرض الشعر العربيّ الجزلِ المتين، وينظر بكلتا عينيه إلى زمانه ومكانه...