على الرغم من تنويعات وتعدّد مستويات الأداء التعبيري، وتدفّق البوح الشعري غير أنَّ نصوص مجموعة (إلى المنفى أو تقويم الأحزان) للشاعر (خالد القطان) تتأطر بوجع وأسى، إذ ينطلق الشاعر في فضاءات مفتوحة للاشتباك مع مأزوميّة الواقع عبر النص المكاني و(نوستالوجيا) المدن، فالأحزان وغربة المنافي والتأمّل الحزين للجمال والمرأة والحب الذي تحاصره الخيبات، وهناك تنويعات على مستوى المضامين الإنسانية منها التغنّي بالوطن، ونبذ الخراب وفضح الذات المتسلّطة المتمثّلة بالدكتاتور، وتعرية القيم الزائفة، ومكابدة الانتظار والاغتراب والوحدة. وانطلاقاً من هذه المعطيات على مستوى الثيمات الشعرية إلاّ أنَّ القراءة المتفحّصة لنسق النصوص تكشف عن جمالية الآداء وصياغة نصوص شفيفة ومعبّرة تطفح بالجمال، وانتقاء المفردات، وتشكيل الصور الشعرية المؤثّرة والمعبّرة عن الفكرة المتوخاة، ولم يكن التنوع مقتصراً على المضامين الشعرية التي تصدّى لها الشاعر، بل إنَّ هذا قد شمل البناء أو التأسيس الفنّي للنصوص فانشطرت إلى نصوص طويلة نسبياً وإلى نصوص قصيرة وامضة تقترب من تقنية القصيدة الومضة أو (الهايكو) الياباني. ووفقاً لسيميائية العنوان فأنَّ الخطاب الشعري لدى الشاعر (القطان) يتمركز حول الوجع والأحزان والأسى، ومكابدة المنفى (إلى المنفى.. أو تقويم الأحزان)، ويبتدئ العنوان بحرف الجر وكأنه يشير أو يدعو المتلقّي للخوض في هذه العوالم المكتظّة بالأسى .. أسى الذات والوطن والمرأة والمنفى والقبح الذي يزحف على الواقع، وتتوزع عنوانات المجموعة إلى العنوان المفرد الدال مثل (نضج، طعنات، انتظار، سكون، دكتاتور، الصخرة، الأفق...) وغيرها من العنوانات الأخرى، ونلحظ أن عنوانات الجملة التي ترسم ملامح لمشهد أو دلالة مثل (شظايا الألم، إلى عراقي في المنفى، وجسد في هذا العالم، لجسدك الناحل قيامة الرؤيا، غربة وعربى أحزان، بكاء يمامة، هي وأنا ونهارات مجنونة، وطني صوت الناي، غواية الحكمة على أبواب الفقراء، هايكو عراقي، حياة صاخبة، بئر الأوهام..)، ولابدّ من الإشارة إلى أن المحمول الفكري وهيمنة الأسى والوجع إلاّ أن لغة وصور وعوالم النصوص جسّدت جمالية تعبيريّة، ولم تنزلق إلى السوداوية أو العدميّة بل إنَّ التحليق الوجداني، وتدفّق الصور والمفردات جعل منها نصوصاً محلّقة وجاذبة .
ويجسد نص (نايات الجسد) نمطاً من البوح الإيروتيكي وإلى التوق الجمالي والتعبير عن عشق المرأة :
اشتاق إلى طعمك الملتصق / بالشفاه / وأعدُّ على الأصابع
سنينك الدافئة / تحت دائرة المسرّات / خدر أحمق سيري
ونستدل على هذا البوح الإيروتيكي المحلّق في وصف المرأة والتمجيد الحسّي القائم على مفاتن الجسد، وتمثّل تلك العوالم جمال السحر ورائحته، ثم تستحيل المشاعر إلى عطر مشتعل، وفي غمرة هذا الميل يعبّر الشاعر بصورهِ ومبثوثاته عن التوق إلى المرأة التي تمثّل ملاذاً أو ملجأً لتذوق الجمال لكن هذا التوق لا يخلو من وجع الذات المتطلّعة :
كلّما أحنُّ إليك / وأنت هناك / تاريخ من الوجع / يعذبني
ويقذفني / في حيرة السؤال .. (المجموعة: 9)
ويتشكل نص المكان من خلال التغنّي والتعالق الوجداني مع بغداد التي تمثّل الوطن الدافئ، ودمشق التي تمثّل عالم البحث والمنفى حين اشتدّت خطوب الوطن، يقول في نص (بغداد) :
نجمة في مدار الكون / أنت / وقطب الحضارة
إشراقة فجر في ظلام / الليل / وشعاع منارة
فبغداد تمثّل للشاعر نجمة في مدار الكون وأرض الحضارة الخالدة، وإشراقة في الظلام وشعاع منارة، وهذا التوصيف يجعلها الملاذ والأمل والمثال، ويعبّر عن ديمومتها وجمالها وبهائها على الرغم من الحروب وكلّ الندوب.
ويصف دمشق بوصفها المنفى الجميل مذ جئتك / دمشق / مذ كانت عيناي / تنزف غربة الوطن
ولم نلحظ في هذا النص وصفاً اغترابياً لمعنى المنفى بل نرى الشاعر يجد في دمشق ملاذاً وملجأً، وفضاءً لاستعادة العزيمة، وهو ينظر إلى الوطن ويتطلّع نحو أمل الخلاص والعودة. ولعل من ضرورة التفحّص والمعاينة النقدية الإشارة إلى أهميّة وجمالية نص (إلى المنفى أو تقويم الأحزان) الذي تحمله المجموعة عنواناً لها، فهي قصيدة طويلة نسبياً مكتظّة بالمعاني والصور والإشارات الدالّة، ونلحظ فيها توظيفاً جمالياً ودلالياً للمحمول الأسطوري، فقد حشد الشاعر إحالات ميثولوجية تأطّرت بنوع من الإسقاط والقصديّة وهو يستنطق مكابدة الزمن الحاضر: زمن يجلب لنا / الأهوال والعاهات / ونحن نيام / ولكن لا نعرف كيف؟ وعلى وفق هذه المعطيات الجمالية والدلالية وأنساق التعبير المتعدّدة تمكن الشاعر من أن يقدّم مجموعة ثرية وعميقة المعاني والإحالات عبر لغة وصور وإشارات منتجة للجمال والمعنى والاشتباك مع واقع مأزوم ومحتدم .