تُعد رواية “خلية النحل” للكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا من أبرز الأعمال الروائية التي تناولت الواقع الاجتماعي والسياسي لإسبانيا في أعقاب الحرب الأهلية. ورغم أن الرواية لا تتبع بناءً كلاسيكياً تقليدياً، إلا انها تقدم نفسها كوثيقة أدبية ضخمة تُجسّد لحظة تاريخية مأزومة من خلال تعددية الأصوات وكثافة الشخصيات وتشظي السرد. ومن الملفت أن الرواية تبدأ بثلاث مقدمات أو أكثر، تُثير القارئ وتوهمه بأنه مقبل على عمل تاريخي ضخم أو ملحمة سردية سياسية، إلا أن هذه المقدمات تُوظف بوصفها آلية سردية هدفها كسر التوقعات، وبناء نص قائم على المفاجأة وإرباك المتلقي، تمهيداً للدخول في شبكة سردية معقدة لكنها ممتعة، تُحاكي تركيب الحياة ذاتها. لا تعتمد “خلية النحل” على بطل مركزي أو حبكة تصاعدية، بل تنهض على تفكيك الحياة اليومية عبر عشرات الشخصيات الثانوية التي لا يجمع بينها سوى المكان والظرف التاريخي. ومن خلال فضاء ضيق هو مقهى تمتلكه “دونيا روسا”، إذ يتم عرض مشهد بانورامي لحياة المجتمع المدريدي في الأربعينيات، حيث تتقاطع مصائر الناس في لحظة هشّة، معلقة بين بقايا الحرب وفجر نظام ديكتاتوري جديد. المقهى في الرواية ليس مجرد مكان عابر، بل نقطة التقاء للشخصيات، تنبعث منه القصص الصغيرة التي تتراكم لتشكّل صورة كبرى عن الواقع الإسباني الذي يعاني من أزمات أخلاقية واقتصادية وسياسية.
الشخصيات في الرواية ليست رموزاً مجردة ولا نماذج جاهزة، بل كائنات هشة تحمل تناقضات الإنسان في أقسى لحظاته. من العجائز المهملات إلى النساء الفقيرات إلى المثقفين اليائسين، تُرسم هذه الشخصيات بواقعية حادّة، خالية من النمطية أو محاولات التجميل. إذ يتعامل ثيلا مع أبطاله كأناس من لحم ودم، تحركهم الرغبة، ويخنقهم الفقر، وتحاصرهم الأعراف والسلطة. وفي وسط هذا الزحام الوجودي، تبرز شخصيات مثل “دونيا ليبريتا” و”سنيورا بيكتوريتا” بما تحمله من إنسانية عميقة، تُظهر تمزق الأنسان من الداخل، ومرارة العيش، دون الحاجة إلى تعقيد لغوي أو افتعالات درامية. الرؤية السردية التي يُبني بها النص تقوم على التفصيل الجزئي لحيوات المهمّشين.
ليست هناك قصة واحدة تُروى، بل مئات القصص التي تتجاور دون أن تندمج، مما يجعل الرواية أقرب إلى “النسيج” منها إلى البناء الخطي. هذا الشكل السردي يتناسب تماماً مع ما تعنيه “الخلية” في العنوان، حيث تتجاور كل الشخصيات وتعمل معاً، لكنها لا تفقد فرديتها. وبذلك، تتحول الرواية إلى خلية بشرية اجتماعية حقيقية، يتحرك كل فرد فيها بدافع خاص، لكنه يشترك مع الآخرين في الهمّ العام: البقاء في عالم يضيق بالخلاص. اللغة التي كتب بها ثيلا الرواية تتسم بقدر عالٍ من السلاسة والبساطة الماكرة، حيث تخفي وراء بساطتها رؤية عميقة للواقع. نحن لا نجد في “خلية النحل” استعراضات لغوية، بل سعي واضح إلى التقاط التفاصيل، وإبراز المفارقات، وتصوير العبث واللامعنى الذي يسيطر على الحياة اليومية بعد الحرب. كما أن ثيلا يُجيد الانتقال بين الحوارات والمونولوجات والوصف دون أن يُربك القارئ، بل يصنع تناغماً داخلياً بين الفوضى والانسجام بأسلوب سلس ورائع.
أما على المستوى الدلالي، فإن الرواية تنطوي على نقد اجتماعي وسياسي حاد، لكنه غير مباشر، وغير مؤدلج. إنها لا تُدين السلطة بشكل مباشر، لكنها تكشف آثارها المدمّرة على الأفراد، وكيف تتحول الحياة تحت حكم “فرانثيسكو فرانكو” الاستبدادي إلى عملية مقاومة صامتة من اجل البقاء. في هذا السياق، تمثّل الرواية تأريخاً غير رسمي للطبقات التي لا تُسمَع أصواتها عادة، وتمنح الكلمة لمن لا صوت لهم. رغم أن الرواية تنبني على سوداوية عميقة، إلا أنها لا تُغلق الأفق تماماً، بل تسمح لبصيص من الحياة بالمرور، ولصوت داخلي بالحفاظ على شيء من الأمل. وهذا يظهر بوضوح في بعض النهايات التي لم تُكتب على طريقة التراجيديا، بل تُركت مفتوحة على احتمالات الاستمرار، وكأن ثيلا يؤمن بأن الحياة تستحق أن تُعاش، حتى في أقسى الظروف.
“خلية النحل” ليست رواية عن الحرب الأهلية الإسبانية بقدر ما هي رواية عن ما تتركه الحرب في الروح الجماعية، عن الندوب العميقة التي لا تُشفى، وعن البشر الذين يُكملون حياتهم رغم كل شيء.
فهي رواية عن الإنسان لا عن السياسة، وعن الألم الإنساني المشترك الذي لا يملك إلا أن يستمر في سرد حكايته، حتى وإن لم يكن هناك أحد ينصت له.