اخر الاخبار

التعذيب خصيصة بني الإنسان، لا ينازعهم فيها أحد من الكائنات، يقول ديسبروجيس (( إنَّ ممارسة التعذيب هي ما يميِّز الإنسان – بالتأكيد - عن الحيوان )). ولعل إدراك الإنسان للسلطة المقرون بنشوة الهيمنة، هو الباعث على التعذيب، إذ يقترن التعذيب أبدًا بالتمرد على السلطة، ولاسيَّما التعذيب العلني، فتحضر العقوبة المرعبة كأداة رادعة، مقتضية التعدد في أساليبها: من رجم، وصلب، وتحريق، وتقطيع، وسحل، بل ابتكرت آلات معاقبة خاصة كـ(ثور فلاريس) ذلك الثور النحاسي، الذي اضطلع بمهمة تحميص المتمردين أحياءً في جوفه. و(عذراء الحديد) تابوت حديدي مزوَّد غطاؤه بمسامير عملاقة تخترق جسد المتمرد عند غلق التابوت، وغيرها كثير من فنون التعذيب وأدواته. [المراقبة والمعاقبة، فوكو:71 وما بعدها]

ولعلَّ حكاية تعذيب روبرت فرانسوا داميان مثال يتراءى على مرايا الأزمنة، فلكل عصر (داميانه)!

 في هذه الحكاية ما يغني عن التفصيل في الصلة بين العقاب المرعب والتمرد على السلطة، السلطة التي تلصق نفسها بالرَّب أبدًا، إذ قُدِّم داميان لمحاكمة علنية أدانت جرمه، وحكمت عليه بعقوبات وحشية، إليكَ جانبًا من نصِّ حكمها: (( بناء على اعترافه بجرم الاعتداء على صاحب الجلالة الملك (لويس الخامس عشر) بصفته الإلهية البشرية كونه الرئيس الأول، تلك الجناية الفظيعة الشنعاء الموجَّهة ضد شخص الملك، وللتكفير عن فعلته يحكم عليه بالآتي:

1- يُقاد عارياً إلا من قميص، ممسكًا بمشعل من الشمع الملتهب إلى أمام الباب الرسمي لكنيسة باريس، وهناك يركع ويعترف جهارًا بأنَّه أقدم على ارتكاب جريمة قتل الملك، تلك الفعلة الشنعاء الممقوتة، وأنَّه جرح الملك بضربة سكين في خاصرته اليمنى، وأنَّه قد تاب وأناب فيطلب العفو من الله ومن الملك ومن العدالة.

2- يُساق إلى محل الإعدام ويُرفع على صقالة ثم يُسحب ثدياه ولحم ذراعيه وفخذيه ورجليه بكلاليب، أمَّا يده اليمنى فيمسك بها السكين التي حاول بها قتل الملك وتحرق بالنار والكبريت، وأمَّا الأقسام التي جُزَّ لحمُها فيصبُّ عليها الرصاص الذائب، والزيت الحامي، وصمغ البُطْم الحار، والشمع، والكبريت ممزوجة جميعها معًا.

3- يَشدُّ بدنَهُ أربعةُ أحصنة وتقطَّع أطرافه ثم تُحرق بالنار حتى تصير رمادًا تذرى في الهواء )). [أشهر المحاكمات الجنائية: كريجيل، مجلة الرسالة، ع276 ]

لكنَّ حدود السادية البشرية تخفق دائمًا في بلوغ ذروتها فعلى ما في أدوات التعذيب وألوانه من سحق للذات المتمردة جسدًا وروحًا، إلا أنَّها تتلاشى عند موت المعذَّب، هناك ينتهي العرض البربري ويُسدل الستار، وتنطفئ نشوة النفوس التي لم تُشفِ غليلها من المتمرِّد بعد، فمهما بلغت العقوبة من شدة تظل مؤقتة تنتهي بنهاية حياة المعذَّب. هكذا تبدو العقوبة الموقوتة - على تفننها في الإرهاب - قاصرة؛ لذا صِيرَ إلى البحث عن عِقاب أبدي، عِقاب لا ينتهي بنهاية حياة المعذَّب، إذ يُعاد إلى الحياة ليعذَّب ثانية وثالثة وإلى الأبد، ومَن أجدر من الآلهة للقيام بهذا الدور ! فمَن سواها قادر على إحياء الموتى لتجديد العذاب، والحفاظ على جذوة النشوة المستعرة!

يضمن الإرهاب الرمزي المتمثل بالعقاب الأبدي توفير سلطة عليا تصطف بشكل ما مع السلطة الدنيا، لتكون أداتها في الحد من التمرد، فكيف لخطيئة موقوتة أن تُجزى بعقاب لا نهائي ما لم يكن مباركًا من الأعالي ؟!

تنشعب العقوبات الألوهية الأبدية إلى شعبتين: عقوبة تتغذى على الألم الجسدي، كعقوبة (بروميثيوس) المحب لبني البشر، الذي سرق شعلة النار من الآلهة وأهداها للبشر الذين أحبهم فصار لهم معلمًا، يقول (اسخيليوس) في مسرحيته أغلال برومثيوس، على لسان الأخير: (( لقد رأيتُ الإنسان أحمق، فجعلته سيِّد عقله... أنا الذي أعطيته الأعداد والحروف، وعلَّمته الحساب والكتابة، وعلمته الصناعة وترويض الحيوانات ))، أحبَّ (برومثيوس) البشر؛ لذا تمرد على الإله جوبيتر (زيوس) وسرق لهم قبسًا من النار ليكون أسًا لمعارفهم اللاحقة، لكنَّه دفع ثمن هذا التمرد، فعوقب عقابًا أبديًا بربطه بسلاسل قويه على صخرة في جبال القوقاز، وكان كل صباح يأتيه نسر عملاق ينهش كبده، الذي ينمو مجددًا ليعاوده النسر في المساء لينهش كبده أبدًا، هكذا يُعاقب كلَّ يوم؛ ليكون عقابًا رمزيًا لمَن يفكر بالتمرد على الإله. لكنَّ الأدب يمجِّد المعلم فيظل (برومثيوس) رمزًا للتمرد على السلطة، وضياء معرفة للمستضعفين في الأرض، يقول (اسخيليوس) على لسانه: (( نعم، سوف يسقط زيوس يومًا ما. يجلس الآن بكل ثقة على عرشه، لكنَّ السقوط المدوي آتٍ لا محالة )) [أغلال برومثيوس] .

وهناك عقوبات من ذوات الألم النفسي، ينتشي مُوقِعها بنخر الأرواح، ويستلذ بسحق الأنفس، على ما فيها من مساس بالجسد، كعقوبة المسكينة (إيكو) الحورية الثرثارة، كان يستخدمها الإله (جوبيتر) عينًا ترقب الطريق؛ ليتسنى له اللهو مع الحوريات بعيدًا عن مرأى زوجه الإلهة (جونو)، فما إن تظهر (جونو) حتى تشاغلها (إيكو) بثرثرتها، فتتمكن حينئذٍ الحوريات من الفرار، وإذ فطنت (جونو) للمكيدة قالت: (( لسوف أحرمكِ قدرة هذا اللسان الذي خدعني، فلا تهنئينَ باستخدام صوتكِ إلَّا في أضيقِ مجال )) [مسخ الكائنات: 83] مذ ذلك الحين أخذت (إيكو) بالتلاشي ولم يبقَ منها إلا صوت يمتلكه الأغيار، فليس لها إلا ترديد أواخر العبارات التي تسمعها، ذلك الصدى ذو الحضور الكسير أبدًا.

نعم، تمرر أسطورة (إيكو) رسالة تُجمل فيها جزاء مَن يحاول خداع السلطة، لكنَّني أهجسُ ظنًا أبعد يتمثل بتحذير لِمَن يرتضي لنفسه دور الخط المائل المتموضع بين سلطتين متضادتين، يخال أنَّه سيحظى بالمكاسب منهما معًا، لكنَّه لن يجد إلَّا طحن الذات وتلاشي الكينونة عقوبةً أبدية.

وليس (سيزيف) بمنأى عن هذا الموضع، حين قرر شَغل المسافة بين (إسوبس)و (جوبيتر)، إذ اختطف الأخير (إجينا) ابنة الإله (إسوبس) تاركًا إياه يتفجر غضبًا، وهنا يقرر البشري المسكين (سيزيف)أن يساوم على تفاصيل هذا الاختطاف وفاعله، مقابل وصول الماء إلى قلعته (كورنث)، ولن يخفى الأمر – بالتأكيد- على (جوبيتر) الذي يقرر معاقبته على إفشاء سره، يصف هوميروس هذه العقوبة على لسان (أوديسيوس): (( ورأيتُ سيزيفوس... كان قابضًا بكلتا يديه على صخرة ضخمة، يحاول دفعها على منحدر هضبة إلى قمتها، وكان يدفعها بعد أن يُجهِدَ ركبتيه وذراعيه، لكنَّها كانت إذا ما شارفت القمة تُفلتُ منه وتتدحرج بسرعة عظيمة مرتدة إلى سفح الهضبة، ليعاود الكرة مرارًا )). [الأوديسا : 144] هكذا حُكم عليه أن يُرهقَ صعودًا بلا جدوى، يقول كامو فيه: (( ليس هناك عقاب أبشع من العمل التافه الذي لا أمل فيه )). [أسطورة سيزيف: 169].

المعذَّبون: بروميثيوس، وإيكو، وسيزيف، انعكاس رمزي للتعذيب الأرضي الذي يتلقاه المتمردون على السلطة عبر التاريخ، وتتمة لحفلها السادي، وسِفر من أسفار مناهجها العقابية العديدة .