يتناول إدوارد سعيد في كتابه "المثقف والسلطة" العلاقة المعقدة التي تربط بين المثقف من جهة، - ولا يحدّد أي مثقف يعني - والسلطة بمختلف أشكالها من جهة أخرى، بأسلوب نقدي عميق يكشف طبيعة هذه العلاقة التي غالبًا ما تتسم بالتوتر والصراع، على اعتبار أن المثقف الحقيقي يواجه التصرفات التي تصدر من السلطة، لا سيما السلطة القمعية - الدكتاتورية. وهنا لا ينظر سعيد إلى المثقف كشخص يعمل ضمن مؤسسة معرفية أو أكاديمية فقط، بل كصوت حر مستقل، يلتزم بالحقيقة ويقف ضد التزييف، مهما كلفه ذلك من عزلة أو خسائر. المثقف عنده ليس موظفًا في خدمة الدولة أو السلطة أو الإعلام، بل ضميرًا يقظًا، لا يُهادن، ولا يصمت حين تُنتهك الكرامة أو يُسحق الضعفاء، أي إنّه أشبه بالإنسان الثوري.
يرفض سعيد فكرة أن يكون المثقف محايدًا أو صامتًا في وجه الظلم. بل يعتبر أن الصمت في مثل هذه الحالات تواطؤاً مقنّعاً، والحياد نوع من الجبن الأخلاقي، لهذا السبب برز الثوار الذين لم يداهنوا السلطة، والسلطة بدورها أقصت الكثير من المثقفين، وعدت بعضهم من أعدائها. فحين تكون الحقيقة واضحة والظلم صارخًا، لا مكان للحياد. والمثقف الذي يتراجع تحت ضغط المؤسسة أو إغراء المنصب يفقد دوره التاريخي ويتحوّل إلى أداة في يد السلطة بدل أن يكون ناقدًا لها، والتاريخ عاج بالمثقفين الذين أشترت ذممهم السلطة، وكممت أفواههم. من هذا المنطلق، يرى أن وظيفة المثقف الأساسية هي مساءلة السائد، لا الانخراط فيه، وأن قول "لا" في وجه القوة هو علامة على صدق المثقف، وعلى أنه مثقف حقيقي، يشعر بمسؤوليته ازاء كل انحراف أو ظلم يقع على رأس المواطن.
لذا يمتد نقد سعيد إلى أشكال السلطة المتعددة، لا السياسية فحسب، بل أيضًا الاقتصادية والدينية والثقافية، ويظهر كيف أن هذه السلطات تحاول دائمًا استيعاب المثقفين أو تحييدهم أو تدجينهم، من خلال الترغيب أو التخويف أو التهميش. كما يحصل عندنا في العراق أبان السلطة التي انهارت في 2003. وهو يعتبر أن المثقف الحقيقي يظل دائمًا في حالة "نفي" رمزي، لا يجد له مكانًا مريحًا داخل المنظومة، لأنه ببساطة لا يقبل أن يصبح جزءًا منها. هذا النفي ليس نفيًا جغرافيًا بالضرورة، بل هو نفي فكري ووجودي، يجعل من المثقف شاهدًا على الكذب ومقاومًا للصمت.
ويستخدم سعيد أمثلة متعددة من التاريخ المعاصر لأسماء ارتبطت بالمواقف الأخلاقية الصلبة، مثل جان بول سارتر أو نعوم تشومسكي، ذكر هذين الفيلسوفين كونهما كانت لهما مواقف عظيمة؛ مشيرًا إلى أنهما لم يكونا مجرد مفكرين، بل شهودًا على عصرهم، تصدوا للاستعمار، والعنصرية، والإمبريالية، وضد التواطؤ مع الأنظمة الجائرة. ويقابلهم بنماذج من المثقفين الذين ارتضوا أن يكونوا مجرد أدوات ناطقة باسم الحكومات، أو متحدثين باسم المؤسسات التي تموّلهم، ليطرح سؤالًا صريحًا: من هو المثقف الحقيقي؟ هل هو من ينسجم مع المؤسسة ويصعد داخلها؟ أم من يرفض الانسياق خلف السائد، ولو على حساب نفسه؟
وفي السياق العربي، لا يغفل سعيد واقع التحديات التي يواجهها المثقف في ظل أنظمة سياسية خانقة، ومجتمعات تتحكم فيها القيود الثقافية والدينية. لكنه في الوقت نفسه لا يعفي المثقف العربي من مسؤوليته، بل يحمّله عبء الصمت أو التواطؤ حين يكون بإمكانه قول الحقيقة. فالثقافة في نظره ليست مجرد تأمل في الجماليات أو التحليل الأكاديمي، بل موقف أخلاقي، وسلوك فذ.
إنّ ما يقدمه المؤلف دعوة واضحة لأن يستعيد المثقف موقعه الطبيعي في خط المواجهة، لا في منطقة الراحة؛ فهذا لا يليق به كمثقف. حيث لا أحد يُجبر المثقف على أن يكون صادقًا، لكنه حين يختار أن يكون كذلك، عليه أن يدرك تبعات هذا الخيار، قبل أن يقدم على ما يروم. لأن الصدق في قول الحقيقة – كما يرى إدوارد سعيد – هو في ذاته فعل مقاومة، وشعور بالذات النبيلة.