اخر الاخبار

أقطع الطريق من بيتي حتى مكتبي،  مشيا .. بعشر دقائق، عبر شارع كثيف الشجر، لا التواءات به ولا تكسرات في حجر رصيفه، يمكن أن أتعثر بها حين يشرد ذهني في متابعة المارة أو الواجهات الزجاجية للمتاجر والمقاهي.  لم تتغير عادتي منذ أعوام، لكن هذه المرة، قلبت كياني امرأة،أو بالأحرى عطرها الذي لم اشم مثل سحره وعنفوانه من قبل، فقد تسرب إلى أنفي، واستمر يجري في عروقي ورأسي، ثم اخذ  يتضوّع على المارة والرصيف كنسمة عذبة تجعل الرقاب تلتفت إلى صاحبته، وكالمسحور، بدأت  أمشي وراء هذا الجسد المزدهي  بتمايلاته وتموجاته،  وشعره الطويل الفاحم السواد.

كنت أحمل ملفات عديدة  في حقيبتي، منها قضايا اللاجئين، وشكاوى حمّلني البعض كي أتصل  ببلدية المنطقة من أجل حلها.

وكلما استمرّ بالمشي،أشعر بتململ الملفات في الحقيبة، فتصيح محتجة، وحالما أفتح حقيبتي لمعرفة جليّة فوضاها، سكنت تلك الملفات بفعل سحر الرائحة التي لامستها، وربما وجدت لي التبرير وعذرتني عن فعلتي.

تعثرتُ بهيكل متشرد نائم على الرصيف، فتح عينيه على وسعهما، ونهض ليسألني:

-هل شممت عطرا مثله؟

بدا مندهشا مثلي.

 رافقني في السير،  بعد أن نفحته سيكارة، دخنها بشراهة، ولكن رائحة الدخان لم تبدد عَفَن الحموضة الغريبة المنبعثة منه.   بدأت معدتي  تعتصر، لاسيما وأن الرجل يحدثني عن زمان مضى، قبل إصابته بالكآبة،  حيث كان يدشن صباحه بالتحمم والتعطر بعد الحلاقة، ثم أهمل نفسه حتى طُرِدَ من العمل، فعانق الطرقات والأرصفة.

سألته، إن كانت له عائلة.

 أجاب ضاحكا : زوجتي هجرتني مع عشيق آخر، ولم أعد أرى أولادي الصغار، فقد أخذتهم الرعاية الاجتماعية ، لأني لا أصلح لتربيتهم.

قلت له كي أتخلص منه:

-فرصة طيبة ان أتعرف عليك، مع السلامة!

 وكانت عيوني مصوبة نحو امرأة العطر.

رمقني بذهول وكأن العطر المتضوّع قد انتشله من عبء الحموضة اللاصقة به.

-سأستمر معك في الملاحقة! أريد سيجارة ثانية؟

 ناولته علبة السجائر، ، سحب واحدة وقدمها لي، ثم أخذ يوزع السجائر على عدد من المشردين الجالسين على الرصيف، مستغلا متابعتي لامراة العطر،  فنهضوا لمتابعة خطواتنا، ربما  فهموا أنها دعوة الى مرافقتنا،  وما هي إلا عدة دقائق، حتى سار معنا جمع  من  المشردين، وقد انتقلت العدوى إلى  بعض السياح وهم  يسحبون  حقائبهم، ونساء قتلهن الفضول لمعرفة سر العطر، وربما سر هذا الحشد،  وأنضم صحفيون ظنوا انها مظاهرة مطلبية ضد السلطات.

قالت لي  أوراق الشكاوى والمستندات في داخل الحقيبة: عجيب أمرك! الى أين تصل؟ وما الجدوى من هذه الملاحقة؟ وكي أسكت أصواتهن، وضعت صحيفة من الصحف التي توزع مجاناً فوقهن، ولم اكتف بذلك بل وضعت قنينة الماء ايضا كي لا تمد لسانها علي.

أصبحت في حلقة كبيرة من الناس الذين تنث منهم روائح غريبة عجيبة، تكاد أن تبعدني عن رائحة صاحبة العطر، كما كان منظري المفرط بالأناقة قد أصبح نشازا بينهم.

اقتربت مني امرأة ملأت جسمها ووجهها بالوشم والحلى الرخيصة، وترتدي تنورة قصيرة جدا، بينما كان نهداها يندلقان من كبرهما الى الإمام،  وسألتني: إستاذ، أتذكرني؟

كنت أعاين صدرها، بينما سؤالها الملوث برائحة الخل المنبعث منها، جعل رأسي يدور، نظرت إليها،دون أن تغيب نظراتي عن امرأة العطر .  فقلت بلا مبالاة: كلا

ابتسمت بوجهي فبانت اسنان فمها مهدمة، والبقية تتلون بين الأصفر والأسود. وقالت:

- أنت تبنيت قضيتي، ولكن بعد منحي اللجوء، استنأنفت الداخلية القضية ضدي وخسرت لجوئي، وطلب مني الرحيل، وها أنا متخفية عن أنظار السلطة، ومتنقلة من مكان إلى آخر.

-ولماذا لم تأت الى مكتبنا؟

قالت ساخرة:

- اخبرتني سكرتيرك، أنك مشغول، وعلي أن أتقبل الأمر! الكرامة غير مقسومة لنا!

- وكيف تدبرين معيشتك الآن؟

 ضحكت بصوت عال، وأندلق نهداها أكثر الى الإمام وهي تلامس صدري.

قالت: مرة بالسرقة ومرة بالشحاذة، ومرة...

 ضحكت و تركتني وهي تهز عجيزتها، وانحشرت بين الحشد.

التفتُ  الى الوراء، فوجدت المئات خلفي يسيرون، والشرطة تحيطنا من كل حدب وصوب حاملين الحبال من كل جوانب المتظاهرين، كما عرفت لاحقا،  وسمعت بعد أن أصبحت وسط المتشردين وهتافاتهم  في شتم الحكومة، وفضح عهر إمهات الوزراء اللواتي خلفن لقطاء أنذال مثل هؤلاء، وكعادتي خفت وقلقت،  كما أن امرأة العطر ضاعت مني،  واحتوتني روائح من الحموضة والعفن،  قررت أن أنسحب بالذهاب إلى الأمام،  واجهتنا سيارات من الشرطة تقطع الطريق أمامنا، وتطلب منا التفريق،  قبل اللجوء إلى العنف في فض التظاهرة.

 تقدم ضابط أنيق وسأل احدهم بعد أن سكتت الهتافات ورائحة العفونة.

 -من يقف وراء تنظيم هذه التظاهرة؟

 أشارت كل الأيدي إلي. ومضت أفواههم المدهونة برائحة الدخان

 تقول:

-هذا الرجل الأنيق الذي بيننا!

 توجه الضابط لي قائلا:

- انتم لم تحصلوا على إجازة وسببتم في قطع الطريق وفي ذروة الازدحام.

قلت: أنا لم أدع اي أحد الى تظاهرة، كنت أسير خلف امرأة العطر، ولا ادري من أين جاء هؤلاء؟ ابتسم الضابط، فهو يعرف كيف يتعامل مع المحتالين والحشاشة مثلي كما يعتقد. وقال:

 -مفهوم.. أود ان أعرف هل تحمل بطاقة تعرفنا بشخصك؟

 أعطيته بطاقتي كمحام، ولم تترك لي الشكاوى وقضايا اللاجئين  فرصة، وبدأت اشكو الى الضابط إهمالي وعدم جديتي.

 ابتسم الضابط، ونزع قبعته وأخذ يفرك شعره الأشقر، ثم قال بحزم واضح.

- عليكم ان تتفرقوا بهدوء وإلا ....

 قلت: أنا ذاهب يا حضرة الضابط ، أما هؤلاء فليس لي سلطة عليهم،  وحين تحركت خارج السرب، سمعت شتائم لم ينزل الله بها من سلطان وأجمعت كلّها على اتهامي بالخيانة،وبأني برجوازي قذر.

وحتى امرأة العطر جاءت والرائحة تسبقها وقالت لي:

كنت أعتقد أنك رجل، وتغاضيت عن ملاحقتك لي.

ثم انضمت إلى المجموع ، وهي تهتف ضد الأمهات العاهرات. ورد الجميع وراءها  ضد  السفلة والخونة من أمثالي. لم يغادر الحشد وتصاعدت هتافاته ورائحته، فبدأ ضابط الشرطة ينفذ تهديده، فعلت العصي بالضرب، سال الدم على الرصيف، ورشت الشرطة مسيلا للدموع، تخلخل الجمع ، وغابت رائحة امرأة العطر. ابتعدت ، ولكني وقفت كالصنم، أدخن السيجارة الوحيدة المتبقية لدي، لمتابعة المعركة عن بعد، وأنا ألوم نفسي على هذه النزوة، أتسعت دائرة الاشتباكات، فوصل أوراها إلي، حاولت أن أهرب، ولكنّ ضربة قوية على ظهري، دحرجتني على الرصيف ومسحت أناقتي ببول الكلاب والمشردين، وأسقطت السيجارة من فمي،  فالتقطها مشرد كغنيمة حرب، لا أعرف من استهدفني؟ كل طرف يعتبرني عدوا له.  وقفت مرتجفا من الخوف والمهانة، ورغم الأوجاع القوية في جسمي فقد أسرعت الخطى  إلى مكتبي ، بينما كانت الروائح والشتائم  تلاحقني. استخفت (أوراق الشكاوى وقضايا اللاجئين)  بي، استغلت وضعي المزري، وأزاحت غطاء الحقيبة، وبدأت  تسخر من حماقاتي.