يومها كان " ميخائيل شولوخوف" على حافة النهر مرسلاً سنارته، الى عمق النهر لتجلب له سمكة لوجبة الغداء، يقيمها مع ابنتيه وولده، عندما وصله جاره يخبره بان الأكاديمية السويدية أعلنت فوزه عبر الراديو المحلي خبر فوزه بجائزة نوبل في الأدب للعام 1965م، ولم يرد على جاره سوى بجملة واحدة" اش" اخفض صوتك لأنه يجعل السمك يهرب" ومضى يكمل مناورته مع السمك من دون أن يعير للخبر أي اهتمام، وبقي منتظراً حتى علقت سمكة الغذاء في سنارته..
كان الرجل على علاقة وثيقة بالنهر كادت أن تكون علاقة عشق حقيقي بينهما، فكتب قبل أن يكتب رواية (الدون الهادئ) عدة مقطوعات لم ترتق حتى الى قصص قصيرة فنية أو حتى الى شيء سوى "مناجاة" وحوارات داخلية أجراها مع النهر ومن ثم بعدها بسنوات كتب ملحمة "الدون الهادئ" التي عدّت واحدة من بين أبدع الروايات الروسية في القرن العشرين، وحازت على جائزة نوبل في الأدب عام 1965. وكان تاريخ النشر: بين 1928 و1940 وهي من (أربع مجلدات) رواية ملحمية، واقعية اجتماعية، تاريخية، طبعتها الترجمة العربية 1565 ص.
ملحمة إنسانية ضخمة تتناول حياة القوقاز في منطقة نهر الدون خلال الأحداث العاصفة التي مرت بها روسيا في أوائل القرن العشرين، مثل: "الحرب العالمية الأولى" واثرها الأسود الغامق على مصير البلدان الواقعة تحت يافطة الإمبراطورية الروسية العظمى آنذاك، ثم كشفت خفايا عميقة من آثار الثورة البلشفية 1917، واسرار الصفقات المريرة التي عقدها الجواسيس من أجل نهب البلاد والعباد ثم كشفت أيضا تبعات الحرب الأهلية الروسية المريرة التي جعلت من الناس تذبح بعضها بعضا على الهوية، وعرضت الكثير من مواقف الإدانة التي صورت صراع الإنسان مع الحرب، والسياسة، والعائلة، والحب، والهوية. عبر شخصيات محورية "غريغوري ميليخوف (البطل): وهو قوقازي شاب وسيم، يتصف بالقوة والحساسية، ممزق بين التقاليد والحب، والولاء والانشقاق. يقع في حب “آكسينيا”، امرأة متزوجة، ما يُحدث صراعًا عاطفيًا واجتماعيًا عميقًا.
يتنقل بين ولاءات متعددة في الحرب (الجيش القيصري، ثم البلشفي، ثم الأبيض…). "اكسينيا" امرأة قوقازية، محبوبة غريغوري، رمز العاطفة والتمرد. تعيش حياة مأساوية، ويجسد مصيرها تعقيدات المرأة في ظل المجتمع الذكوري والحروب. ثم شخصية الجميلة "ناتاليا": زوجة غريغوري، تمثل الجانب التقليدي والواجب، التي تعاني من الإهمال العاطفي، وتتقطع الماً سراً وعلناً أمام حالة الزوجة التي يخونها زوجها. فضلاً عن بيترو (شقيق غريغوري) وباڤيل: شخصيات ثانوية ترمز لصراعات الداخل الروسي.
كل الأحداث تجري في قرى القوقاز على ضفاف نهر الدون، وهي مجتمعات زراعية عسكرية عريقة. المكان ليس عابرا المكان أحد شخوص الرواية المهمة كما يقول الناقد "باختين" نهر الدون ليس مجرد خلفية جغرافية، بل رمز للاستقرار والهوية والجمال المتغيّر. حيث يجسد رسماً حقيقا عبر "غريغوري" الإنسان الروسي الممزق في زمن التحولات الكبرى: تمزقات وتحولا عاصفة تقلل من إنسانية الإنسان المنتمي بعشق حقيقي الى وطنه وعشيقته هل ينتمي للوطن أم للعائلة؟ للجيش أم للثوار؟ للحب أم للواجب؟ الرواية فيها انسحاق تحت عاطفة الإنسان فلا تعطي أجوبة مباشرة، بل ترصد ألم التمزق الإنساني. على الرغم من انها نُشرت في الاتحاد السوفيتي، إلا أن "شولوخوف" قدّم صورة متوازنة نسبيًا: فهو لم يمجّد الشيوعية بالكامل، ولم يُهن القيصريين بسطحية، بل صوّر الجميع كبشر يتصرفون في ظل ظروف قاسية. حيث تقف قصة الحب بين "غريغوري" و"آكسينيا" واحدة من أقوى ثيمات الرواية، تُظهر كيف يمكن للعاطفة أن تكون مصدر قوة وضعف، وتكشف عجز الحب أمام الحروب والسياسة. الشخصيتان تنتميان الى مصادر متنازعة، ومع ذلك الحب ينها يدوم ويتحقق بتحد كبير حيث يُظهر "شولوخوف" الحرب كقوة عمياء تسحق الفرد مهما كانت نواياه، ويبرز عبثية الانتماء حين يُطلب من الإنسان أن يقتل من كان بالأمس أخًا له.
يعهد القاري لغة "شولوخوف" لغة غنية بالتفاصيل، بطيئة الإيقاع أحيانًا، وتصور الطبيعة والمشاعر بدقة شعرية.
هذه الرواية تُعد واحدة من أضخم الأعمال التي صوّرت الحرب الأهلية الروسية من وجهة نظر إنسانية واقعية. وهي الرواية الوحيدة التي كتبها "ميخائيل شلوخوف"، وحاول بعض حساده التشكيك بإمكانية كتباتها (لكنها لم تُثبت). خاصة بعد أن جلبت لصاحبها جائزة نوبل. اقتباسات من الرواية الطبعة العربية: "في وضح النهار، يشق على المرء مواجهة موته أما حينما يكون نائما، فلا بد أنه أمر يسير". "عندما يتشاجر السّادة، ترتج نواصي الفلاحين"، "الحمقى فقط، هم الذين يضحكون من مصائب الآخرين".