اخر الاخبار

من المحاولات التأسيسية المبكّرة، التي اقترحت قراءات للعرض المسرحي في ضوء العلاقة بين منتجه ومتلقيه، بتأثير من جمالية التلقي، محاولة الباحث المسرحي الإيطالي ماركو دي مارينيز في دراسته "الانفعال والتأويل في تجربة المتلقي مع المسرح: ضد بعض الميثولوجيات ما بعد الحداثية". ينطلق دي مارينيز من نقد بعض الدراسات المسرحية التي سمّاها دراسات ما بعد حداثية، خاصةً في ما يتعلق بموقفها من تجربة المتلقي، فهي تختصر هذه التجربة في ما هو انفعالي، أي أنها تعدّ الانفعال بمنزلة التأثير الوحيد للعرض المسرحي على المتلقي، كما تعدّه ظاهرةً مباشرةً ومستقلةً عن العمليات المعرفية الأخرى كالتأويل والتقويم والتذكّر.

إن هذه النظرية الانفعالية تصدر، في نظر دي مارينيز، عن رؤية ساذجة ورومانسية جديدة، لذا حاول بناء تصور مغاير حول تجربة المتلقي، انطلاقًا من قواعد نفسية ومعرفية صحيحة، بلوره في إطار ما سمّاه بـ"التصور السيميو- معرفي في التجربة المسرحية"، هذا التصور الذي يرفض التقابل بين ما هو انفعالي وما هو إدراكي، ويؤكد أن التجربة المسرحية، بوصفها تجربةً جماليةً، ينبغي أن تفهم كمجموعة معقدة من العمليات الإدراكية، التأويلية، الانفعالية، والتقويمية... إلخ، والتي تتداخل كلها، وتتفاعل فيما بينها.

ويستنتج بعض الباحثين من ذلك أن المتلقي، كيفما كان موقعه وعلاقته بالعرض المسرحي، ليس سلبيًا، كما أن تجربة التلقي لديه لا تنبني على معطيات حسية فقط، بل يتداخل فيها ما هو انفعالي، وما هو إدراكي ومعرفي، وإذ يربط هذه العمليات بطبيعة العرض المسرحي، فإنه يلاحظ أن المتلقي عند مشاهدته لعرض مسرحي يحاول تكوين بنية حكائية حول ما يجري أمامه، والعمل على ربطها بالفضاء والشخصيات والزمان، كما يحاول تفكيك بعض العلامات، وإيجاد علاقة بينها من أجل بناء المعنى، لأنه في غياب معنى ما يحس المتلقي وكأنه عاش نوعًا من الانقطاع في اللذة الجمالية والفنية.

لكن ما يثير الاستغراب في دراسة دي مارينيز، التي تهتم، أيضًا، بتطور نظرية "فعل الكلام"، بوصفها نموذجًا سياقيًا تطبيقيًا (تداوليًا) لاستجابة المسرحية، تصنيفه للدراسات التي تختصر تجربة المتلقي في ما هو انفعالي بأنها "دراسات ما بعد حداثية"، إلى جانب وصفها بأنها "تصدر عن رؤية ساذجة ورومانسية جديدة"، علمًا أن الدراسات التي تركّز على الوظيفة الانفعالية، أو التعبيرية في الأدب والفن تعدّ دراسات قديمةً من وجهة نظر النقد الحديث، وكان ريتشاردز قد ميّز في الثلاثينيات من القرن الماضي بين الوظيفة الانفعالية والوظيفة الرمزية للغة، من خلال اهتمامه "بذات المبدع، متأثرًا بإنجازات علم النفس الباهرة آنذاك، ورأى أن الوظيفتين حاضرتان في أي خطاب، وإنْ تفاوت حضورهما، لكنه أكد على أن الأولى هي المهيمنة على الخطاب الشعري" .

وفي مقاله "اللسانيات والشعرية" الذي نُشر بالإنجليزية عام 1960، بحث اللغوي والمنظّر الأدبي الروسي رومان ياكبسون هذه الوظيفة، التي اقترحها مارتينيز، ضمن نموذج العوامل الستة المكونة للفعل الاتصالي، ووظيفة كل واحد منها في الخطاب اللغوي، ذاهبًا إلى أنها "تركّز على المرسِل، وتهدف إلى أن تعبّر بصفة مباشرة عن موقف المتكلم تجاه ما يتحدث عنه، وهي تنزع إلى تقديم انطباع عن انفعال معيّن صادق أو خادع". وقد ضرب ياكوبسون مثالًا على هذه الوظيفة بممثل قديم، في مسرح استانسلافسكي بموسكو، حكى له "كيف كان المخرج الشهير يطلب منه، حينما كان يؤدي عرضًا تجريبيًا لمسرحية ما، أن يستخرج أربعين رسالةً مختلفةً من عبارة "هذا المساء" بوساطة تنويع التلوينات التعبيرية. وكان قد وضع قائمةً مكونةً من بضعة أربعين موقفًا انفعاليًا، وبعد ذلك تلفظ بالعبارة المذكورة في توافق مع كل موقف من هذه المواقف، التي على المستمعين أن يتعرفوا عليها انطلاقًا فحسب من تغيرات التشكيل الصوتي لهاتين الكلمتين البسيطتين".

وعدّت الباحثة الفرنسية آن أوبرسفلد، في كتابها "قراءة المسرح"، الوظيفة الانفعالية وظيفةً أساسيةً في المسرح، في حال قبولها افتراض أن الفعل المسرحي هو عملية تواصلية، وأن الوظائف الست التي أبرزها ياكبسون مناسبة ليس فقط لعلامات النص، بل أيضًا للعرض المسرحي، مشيرةً إلى أن هذه الوظيفة ترتكز على المرسِل، بحيث يحاول الممثل أن يفرضها بكل إمكاناته الجسدية والصوتية على المتلقي، في حين يعمل كل من المخرج والسينوغراف على ترتيب عناصرها في العرض المسرحي بشكل درامي.

إن دي مارينيز، من دون شك، محق جدًا في رفضه اختزال تجربة المتلقي مع العرض المسرحي إلى الوظيفة الانفعالية، التي ارتبطت بالرؤية الرومانسية، حيث يمتثل هذا المتلقي إلى مقصد منتجي العرض (المؤلف، والمخرج، والممثلين، والفنيين)، في استجابة سلبية لنواياهم، التي تختلف قطعًا عن نوايا العرض ذاته، بوصفه واقعةً فنيةً خياليةً، يضمر مقاصده الخاصة، وله استراتيجيته السيميائية المنفتحة على احتمالات تأويلية كثيرة من خلال عملية التلقي، التي تتطلب تفاعلًا عميقًا مع عناصره البصرية والسمعية الدالة المتنوعة، وفعّالية إدراكية، ليس على المستوى الحسي الشعوري فقط، بل على المستوى المعرفي أيضًا. وهذه الفعالية، إلى جانب المستوى الانفعالي، هي التي تؤدي إلى خلق الشعور بالمتعة.