منذ عقود طويلة، عرف الشارع العراقي تلك الصحافة المتقشفة، ذات الوراق الأسمر - المملوح - والخطّ الأحمر. عقود مرت بليالها المدلهمة، ونهاراتها المشرقة، والصحف السمر تتواصل، مرّة على شكل نسخ (ستينسل) حيية، عندما تتكالب المحن، ومرّة على شكل صفحات علنية، تخرج ساخنة من مطبعة الحزب، لكنّها في جميع الأحوال، ما فت عضدها استمرار النضال ووطأة التضحيات، فتحولت إلى ما يشبه أطباق الخوص، حميمة وصادقة، وهي تحتضن خبز الكفاف وأمنيات الكادحين وتطلعت الطبقات المسحوقة، مثل سويف خلف أياه، باشط، ومجرب وأصيل.
عقود طويلة مرت وتلك الصحف السُمر تطالع وجوه الباعة في أكشاك المدن البعيدة، وتكحل عيون المارّة المتلهفة لكلمة حرة أو رأي حاذق شجاع، لا يداهن ولا يخشى الطغيان، في وقت عز فيه الرأي وشحت فيه الكلمة، فكانت كلمات أبو سعيد" و"أبو كاطع" تصدح بالحق المغلف بالحكايا، والمعفر برائحة التبغ الرخيص.
ثمة صحف أخبار، وأخرى صحف منوعات، وثالثة صحف حوادث، لكن ثمة صحف مدارس، تعلم الوطنية والإخلاص لقضايا الشعب والكفاح من أجل إسعاده، كل هذا مُدافًا بالمهنية الحقة والعِرفة – والمعرفة، مدارس تُعلّم العاملين فيها، أين يضعون النقطة، وأين يضعون الخط، وكيف يخاطبون وعي الجماهير، من دون التفريط بوعي النخبة.
كفاح الشعب، الشرارة، قاعدة العمل، وحدة النضال، النجمة، الإتحاد، آزادي، الأساس، العصبة، اتحاد الشعب، كلها عناوين صحفية من مدرسة واحدة، جمعتها قضية الوطن والشعب، وفرقتها الأساليب وظروف الإصدار المتناوب من فرط الإصرار، لكنّها سلسلة متواصلة لم تنقطع يوما أو تتراجع أو تفتر عزيمتها.
طالع أي عدد قديم من الفكر الجديد أو الثقافة الجديدة، وستجد المعنى والـ - العِرفة - والمعرفة والتحليل والفلسفة والفهم والوضوح.
إنّنا في الطريق الثقافي نفخر بانتمائنا إلى تلك المدرسة العريقة، سواء في النضال، أو في الصحافة الحقة والمهنية والناصعة والواضحة التي لا تتعالى على مفاهيم الناس في خطابها، من دون أن تفرط بنخبويتها الثقافية وخطّها الاحتجاجي، سواء في الاحتفاء بفناني وأدباء الشعب، أو في تبني قضايا الإنسان وحقوقه والبيئة وحقوقها، وثقافات الشعوب وتنوعها. نعم هكذا تعلمنا منذ نعومة أظفارنا، في تلك المدرسة العريقة، كيف نوفق بين هذه المشتركات جميعها، وكيف نواصل، وكيف نتحدى الصعاب، لأنّنا ببساطة حاملو ذلك الرأي وتلك الشعلة وهاتيك الروح الوقادة، مثل الطائرة الورقية تمامًا، كلما أشرعت أعطافها للريح علت وارتقت، لأن الأمر يتعلق بمن يمسك الخيط وليس بالطائرة، ذلك العراف الحذق الذي يعلم متى يمنح الحريَّة، ومتى يحافظ على التوازن، ومتى يكبح جماح الريح، وما دام الأمر كذلك، ستظل تلك الطائرة الملونة ذات الأعطاف الحمر، محلقة في السماء، ترسم أقواسًا مبهرة، وتُفاجئ الجميع في كل مرّة.
افتتاحية "الطريق الثقافي" العدد 167