اخر الاخبار

علاقتي بالصحافة اليسارية بدأت في أوائل السبعينيات مع صحيفة "طريق الشعب" العلنية، التي كانت قد تصدرت المشهد الصحفي العراقي بمضامينها المتقدمة والمتحدّية والناهضة كبديل للصحافة الرسمية البعثية المستفزة.

عبّر ذلك البروز البهي لجريدة غير حكومية عن نوازع مكبوتة وآمال سياسية مقموعة، كانت تحلم بحرية الكلمة، التي استشهد في سبيلها كوكبة من خيرة أبناء الشعب على مر العقود. حظيت صحيفة "طريق الشعب" العلنية بالتفاف جمهور واسع من مختلف فئات المجتمع، واستقطبت كتّاباً وقرّاءً كثر، وتفتحت على صفحاتها مواهب مغيبة، شغلت فيما بعد وبجدارة الحيز الثقافي والأدبي والسياسي العراقي.

أتذكر بشعور من النوستالجيا المحببة إيقاع الحركة السياسية الناهضة في الجامعة حينها، والدور الذي لعبته جريدة يومية، مثّلت حلماً أو وعداً بالحرية والانفتاح في ظلال صعود مرعب لحكمٍ استعار من الفاشية أبشع أساليبها، ومن التراث أكثر محطاته قمعاً وظلاميةً، ومن طغاة التاريخ كل قدراتهم بالفتك وإيقاع الأذى بالرعايا قبل الأعداء.

استمرت العلاقة بالصحافة اليسارية والمعارضة في المنافي الواسعة إلى أن قررتُ في ليلة ما في أواخر عام 1990 بأن أجرّب الكتابة في تلك الصحف، التي كنت أتابعها بشغف، وكانت تذكرني بأن لنا وطناً مستباحاً لكنه على وشك استعادة كبريائه ووحدته المهددة.

بعثت المقالة الأولى على عنوان بريدي فأرجعت لي بعد اسبوعين بملاحظات بقلم محرر ماهر، كنت أعرف عنه دون أن ألتقيه، هو المرحوم الدكتور غانم حمدون. أرجعتها بعد الأخذ بالملاحظات، ونُشرت المقالة في المجلة العريقة "الثقافة الجديدة" آنذاك.

كانت تلك البداية الحقيقية لرحلة الكتابة بالتعاون مع الراحل د. غانم حمدون. ومع استمرار صدور "طريق الشعب " ومجلة "الثقافة الجديدة"، أطلق الأستاذ فخري كريم مجلة "النهج" اليسارية الرائدة، ثم مجلة "المدى" المعنية بالثقافة والأدب والفن، التي نشرت فيما بعد ترجمتي لكتاب "العودة إلى الأهوار" للكاتب البريطاني غافن يانغ في أواسط التسعينيات، فشعرت باعتزاز مضاعف، شجعني على الاستمرار في الكتابة إلى هذه اللحظة.

عادت الصحف من المنافي إلى وطن جريح ومحتل، ومجتمع أنهكته الحروب بعد عام 2003 لتواصل مسيرتها العلنية مجدداً في ظروف مختلفة سياسياً. لم يعد كتّاب المقالات والأعمدة والأخبار مهددون بالموت، لكن الصحافة نفسها، أو على الأقل المطبوعة منها، مهددة بالموت، ليس بسبب الرقابة بل بسبب التكنولوجية والعصر الرقمي ووسائل التواصل، والعدد اللامحدود من المنابر والمواقع، وسهولة النشر والانفلات التام من الرقابة، ليس بمعناها البوليسي بل المهني المعني بمعايير النشر والرصانة، وأخيراً التمويل!

كان ذلك تحدياً كبيراً لم تسلم من عواقبه أكبر الصحف العالمية، فكيف بصحافة يسارية في المنافي بعد ثلاثة عقود من القمع والملاحقة والحصار؟

سيبقى هذا التحدي قائماً، والصحافة بكل تنوعها السياسي والتجاري، ستواجه احتمالات التلاشي ان لم تواكب التحول الهائل في صناعة المحتوى وتقديم الخبر، وسرعة تداول المعلومة، وتطوير التطبيقات الجاذبة، ودراسة اهتمامات القراء والمتابعين، ودخول حقول المنافسة بمقاربة تفاعلية على مواقع التواصل الاجتماعي وغير ذلك الكثير.

كمتابع للشأن العام، يهمني بقاء الصحافة اليسارية في حقل المنافسة لتقديم المعلومة الصحيحة للمواطنين في هذا المحيط الهائل من المعلومات، وهي ليست مهمة مستحيلة بل ممكنة، وأعتقد بأن ذلك سيكون جزءاً من الوفاء للصحافة الشيوعية واليسارية العريقة التي انطلقت في العراق قبل تسعين عاماً.