اخر الاخبار

ترتبط أهمية الاخراج الصحفي وظيفياً بجوانب ذات ارتباط وثيق بمهنة الصحافة، يأتي في مقدمتها الإخراج والشكل، بوصفهما عنصرين مهمين في تقديم المضمون وجذب القراء على وفق معايير ترتبط بجودة الطباعة وجمالية الإخراج الفني.

منذ تأسيس الصحافة العراقية عام 1869 لم يكن هناك مايعرف بـ "الماكيت" في توزيع المقالات والعناصر التبوغرافية على صفحات الجريدة، بل كانت المهمة تقع على عمال صف الحروف ومشغلي المكائن وبإشراف من مدير أو سكرتير التحرير في توزيع تلك المقالات. مع وضع الفواصل واختيار حجم الحروف ونوعه وإدخال الصور فيما بعد. وهذا ما تحتمه مكائن الطباعة "اللتربريس" انذاك المحكمة بقوالب لايمكن الخروج عنها.

استمرت الصحف في طباعتها لعقود طويلة بهذا الشكل لان ادخال أي تغيير يؤدي الى تأخر صدور الصحيفة لليوم التالي، بل اكتفوا حينها في إدخال بعض التحسينات مثل خط ترويسة الجريدة والمانشيت الرئيسي بلون مغاير. وبالرغم من تلك الامكانيات المتواضعة في الطباعة إلا أن هذا لم يشمل المجلات، بل كانت هنالك مجلات صدرت في الخمسينيات من القرن الماضي مثل "أهل النفط" كانت أنيقة في اخراجها وطباعتها، ومجلة "العراق الجديد" الصادرة عام 1959 ، صممها واشرف عليها الفنان ناظم رمزي، ومجلتي "المثقف والثقافة الجديدة" التي اسهم في تصميمها وخط عناوينها الفنان يحيى جواد، رغم انها كانت تطبع بذات الامكانات الطباعية المحدودة، إذ تتوفر للمجلة فسحة جيدة من الوقت، كون اصدارها دوري، يمنح للمصمم فرصة جيدة في الإبداع والاخراج الفني المتقدم جمالياً.

ظهرت أولى بوادر الاخراج الصحفي في الصحف منتصف الستينيات مثل صوت العرب، الجمهورية، الهدف، واستقطبت صحفيين انخرطوا كمخرجين صحفيين أمثال حسام الصفار وابراهيم زاير ومالك البكري وغيرهم.

كذلك تأسيس قسم الصحافة في كلية الآداب، كان من ضمن مفرداته المنهجية دراسة الاخراج الصحفي أكاديمياً على يد "د.ابراهيم إمام" و"حمدي قنديل" مصريا الجنسية وقنديل كان مدرباً للفنون الصحفية، وعمل بعض المخرجين الصحفين المصريين في الصحف العراقية أمثال "علي منير، سيد عزت"، ما حفز الصحف ان تولي اهتماما للشكل والاخراج.

في عام 1973 سمحت السلطة للحزب الشيوعي العراقي اصدار صحيفة علنية، بعد "التحالف الجبهوي".وحين الشروع في تأسيسها لم يكن اصدارها بشكل يومي بالأمر اليسير، لضعف الامكانيات المالية والفنية المحدودة، فضلاً عن وجود صحف منافسة لها مثل "التآخي" التي يصدرها الحزب الديمقراطي الكردستاني، التي تولي اهتماماً كبيراً بالشأن المحلي وجريدة "الجمهورية " الحكومية التي اهتمت بالجانب الفني والثقافي.

كان تصور الكادرالحزبي القيادي يتعامل مع الجريدة بوصفها وسيلة لنشر أفكار الحزب، وايصالها لأعضائه متأثرين بتجربة الصحافة السرية " غير معنيين بالشكل واخراجها الفني" في حين كان هناك من الصحفيين المحترفين مثل فائق بطي، فخري كريم،مجيد الونداوي، يوسف الصائغ وآخرين.. يرون إن الجريدة يتوجب ان تكون عامة ليس للحزبيين فقط وعليها ان تنافس الصحف اليومية آنذاك، وان تولي اهتماماً كبيراً في الشكل والاخراج والطباعة.

صدر العدد "صفر" في 11/9/1973 بماكيت صممه وخّطَ ترويسته الفنان الراحل محمد سعيد الصكاربقياس تابلويد "القياس النصفي" وأشرف على طباعته الزميل ليث الحمداني، لكنه لم يكتب له النجاح مثلما مرسوم له، وذلك لصعوبة تنفيذه في إمكانيات المطبعة المتواضعة، فضلاً عن اعتراض البعض على شكل الترويسة وصعوبة قراءتها. في 16/9/1973 صدر العدد الأول بنفس الماكيت وترويسة بخط الرقعة، خطها الفنان الراحل كنعان هادي ومتابعة الأدارة الفنية في تنفيد الماكيت قدر المستطاع.. استقطب القسم الفني منذ العدد الأول مجموعة كبيرة من الفنانين وهم: جمال العتابي خطاط الجريدة الأول، الشهيد سامي العتابي، محمود حمد، صادق الصائغ، عزيز النائب، وآخرين.. كانت الفنانة عفيفة لعيبي في مقدمة الرسامين ويشاركها عدد آخر من الفنانين إبراهيم رشيد، وحميد عبد الحسين في رسم التخطيطات والموتيفات، والفنانين مؤيد نعمة ونبيل يعقوب في رسم الكاريكاتير اليومي على الصفحة الاخيرة، وانضم فيما بعد كل من مصطفى أحمد، لؤي رشيد، فلاح حميد، رحمن الجابري، سلام الشيخ، صفاء العتابي، عبد علي طعمة وآخرين.

ومع قرار تغيير قياس الجريدة والانتقال للحجم الكبير، وضع الشهيد سامي العتابي بمعية رئيس القسم الفني ليث الحمداني وبدعم فائق بطي، ماكيتاً جديداً، وقررت هيئة التحرير العمل بموجبه، كونه أكثر انسجاماً مع امكانيات ماكنة الطباعة، التي تعد أول ماكنة طبعت فيها الجريدة الشيوعية الألمانية قبل وخلال الحرب العالمية الثانية وأيام النازية، وبعد زيارة وفد من الحزب الشيوعي الألماني لمطبعة الحزب، تقرر نقلها الى متحف الحزب في المانيا والتعويض عنها بماكنة أوفسيت ألمانية الصنع.

ومع تغيير الماكيت ارتأت هيئة التحرير الى استبدال الترويسة بخط الثلث، المشابهه لترويسة "اتحاد الشعب" والمعمول بها في صدورها العلني والسري ولغاية الآن، مشق حروفها الخطاط الراحل مهدي الجبوري، ولم يذيلها بتوقيعه خوفاً من متابعة رجال الاجهزة الأمنية القمعية له واعتذر بأدب جم عن ذلك.

انضم الى الكادر الفني للمطبعة الشهيد سعدون علاء الدين كمدير للمطبعة، وهو من أمهر ثلاثة طباعين أوفسيت في العراق، والشهيد هادي صالح، والطباع خالد علي، وأول عدد ظهرت فيه الهوية البصرية للجريدة هو العدد الخاص المكرس للذكرى الأربعين لتأسيس الحزب تصدر صفحته الأولى ملصق للفنان جودت حسيب، والذي ساعد في طبعه الراحل يحيى ثنيان، وبذل القسم الفني قصارى جهودهم في إخراجه وشارك في رسوماته كبار الفنانين التشكيليين وهم: محمود صبري، فيصل لعيبي، صلاح جياد، يحيى الشيخ، خالد النائب عفيفة لعيبية واخرين. ويٌعد هذا العدد من أفضل الأعداد الاحتفالية في تاريخ الحزب، وكان وراء نجاحه، المصمم الأساسي له الشهيد سامي العتابي، محمود حمد، جمال العتابي، مصطفى احمد، مع فنيي المطبعة بيمان سعيد، علي الجبوري، عفان جاسم، رحيم فالح، جابر سفر وآخرين، وبأشراف من قبل رئيس القسم الفني ليث الحمداني.

واستكمالاً لهويتها البصرية فقد شرع "صادق الصائغ وسامي العتابي" في انجاز تصميم أبجدية للحرف الطباعي لكل منهما أبجديته الخاصة به، طبعت على الورق ويقوم المنفذون بقصها وتجميعها لعناوين المقالات.

ولأول مرة في تاريخ الصحافة العراقية تفرد للصورة الفوتوغرافية مساحة كبيرة، كونها عنصر جمالي وادخال الرسوم والموتيفات في الموضوعات وتدرجات الشبك واللون ودمج اللونين"الاسود والأحمر" المسمى "دوتون". وبالرغم من ان الشكل الجديد لفت أنظار الصحفيين العاملين بالصحف اليومية الأخرى وأشادوا به. وراحو محاولين تغيير ماكيت صحفهم. إذ ان "طريق الشعب" اتبعت المدرسة الاخراجية الحديثة، في حين كانت الصحف في وقتها تتبع المدرسة المعتدلة في اخراجها،

لكن كانت ثمة اعتراضات من بعض قادة الحزب في حول مساحات الصورواستخدام الفضاءات حول العناوين اللون، يذكر ليث الحمداني في كتابه "أوراق ذاكرة عراقية" الصادر عن مطبعة الاديب البغدادية عام 2016 في ص 125 يقول:

((استدعاني رئيس التحرير عبد الرزاق الصافي وبحضور عضو اللجنة المركزية للحزب زكي خيري مستغرباً من شكل الجريدة قائلاً له " هاي شنو؟؟ قابل أحنه مجلة الشبكة"؟؟ وهو يشير لكبر حجم الصور الفوتوغرافية.. فقلت له: هل الهدف هو ايصال الجريدة للحزبيين فقط يارفيق؟ فأجابني بهدوء، الهدف ايصالها لعامة الناس. وأجبته بسرعة ونحن هدفنا نصمم جريدة عامة وليست حزبية)).

لم تكن "طريق الشعب" متميزة لوحدها بل امتد ذلك التميز للمطبوعات الأخرى، جريدة الفكر الجديد،ومجلة الثقافة الجديدة، ومطبوعات دار الرواد.

تعدّ تجربة "طريق الشعب" الاخراجية، الاولى بين الصحف في ارساء تقاليد مهنية ومنهجية اهتمت بوحدة الشكل وجماليته الظاهرة في إخراج الصفحات، بما يعطي للقارىء إحساساً بالراحة والمتعة في تصفح صفحاتها الثمان. حينها كان العمل شاقاً ومضنياً ينجز يدوياً ويتطلب الدقة والابداع ليظهر بنتائج مبهرة.

تحية إجلال وإكبار للعاملين في القسم الفني وفنيي اقسام المطبعة، والذكر الطيب والوفاء للشهداء والراحلين الذي تركوا بصمة جمالية كبيرة في تاريخ الصحافة العراقية، وصحافة الاحزاب الشيوعية.